البحرين في العصر الهلنستي

البحرين لقد حدث توسع كبير في الاستيطان على جزر البحرين في فترة العصر الهلنستي الممتدة في الفترة الواقعة بين الأعوام 325 ق.م إلى 300 ميلادي، وذلك مقارنة بالفترة السابقة. ويستدل على ذلك بوجود المقابر التي تعود لتلك الفترة والمنتشرة على نطاق واسع في جزر البحرين، وتمثل الأدلة المستخرجة من هذه المدافن مصدرا هاما، فهي تقدم معلومات ملموسة بشأن الحياة الثقافية والمادية لسكان البحرين في تلك الحقبة. بالإضافة لتلك المقابر هناك مستوطنة قد أنشئت في هذه الفترة في موقع القلعة وهي المدينة الخامسة.
ومن أهم المعلومات التي تزودنا بها تلك المقابر هي عدم التجانس بينها، فهناك عدة اختلافات بينها سواء في الهياكل العظمية أو الموجودات التي

تعكس أنشطة مختلفة وغيرها. وعلى أساس تلك الاختلافات اقترح فرانسواز سال أن شمال البحرين يتضمن ثلاث مجموعات من المقابر يحتمل أن تعكس في الحد الأدنى وجود ثلاثة مراكز استيطان قديمة منفصلة في تلك الجهة. المجموعة الأولى وتضم المستوطنة في رأس القلعة كمركز للاستيطان ويتبع لها الحجر والمقشع وكرانة وجد حفص. وتتآلف المجموعة الثانية من أبو عشيرة وأم الحصم وجزيرة النبيه صالح ومدينة عيسى، وتقترن على الأرجح بموقع أثري يكون المركز ربما مطمورا تحت سطح سوق الخميس الحديثة. وتتكون المجموعة الثالثة من الشاخورة وأبو صيبع وجنوسان وباربار و الدراز وبني جمرة، ويبدو منطقياً أنها مرتبطة بمستوطنة مازال اكتشافها يجب أن يحدث في مكان ما في ناحية باربار والدراز. وما يخص هذه المجموعة الأخيرة يمكننا إضافة سار أيضا.
ولكن وبعد القيام بتحليل الهياكل العظمية من قبل الباحثة جوديث ليتليتون تبين أن هناك عاملا مشتركا في جميع المقابر الهلنستية وهو أن مجموعة من الأفراد في كل مقبرة كانوا يعانون من أحد أمراض الدم الوراثية (الثلاسيميا وفقر الدم المنجلي) وهذا يعني أن هذه الأمراض كانت منتشرة قبل العصر الهلنستي.
دلائل تأثير المؤسس
ربما يعتقد البعض أن وجود عدم تجانس ظاهر بين المقابر الهلنستية يعارض وجود مؤسس واحد لتلك المستوطنات الهلنستية التي كانت تجاور المقابر الهلنستية التي عثر عليها، على عكس ذلك، يعتبر عدم التجانس هذا دليلا على تأثير المؤسس، والذي عادة ما يتميز بتوسيع درجة التباين بين الأفراد على عكس أحداث عنق الزجاجة التي تقلل من درجة التباين بين الأفراد. فعلى سبيل المثال لو كانت عندنا مجموعة مكونة من 1000 فرد، من بين هؤلاء 50 فردا يحملون صفة معينة، أي أن الصفة متمثلة في الجماعة بواقع 5 في المئة. لو انفصل من هذه المجموعة 50 فردا وحدث أن يكون من بين هؤلاء الخمسين 10 يحملون الصفة المعينة السابقة، هذا يعني أن نسبة الصفة المعينة في هذه المجموعة الفرعية هي 20 في المئة. وقس على ذلك صفات أخرى تتوزع بين المجموعات الفرعية بنسب مختلفة، وبمرور السنين تتغير تلك النسب وربما تختفي بعض الصفات إذا كانت نسبتها نادرة جدا، وبذلك يكون هناك تباين ظاهر بين المجموعات الفرعية.
إذا كان التباين صفة مميزة لتأثير المؤسس، فلا يمكننا الحكم أن التباين الظاهر نتيجة تأثير المؤسس أو أن المجتمع البحريني القديم في تلك الفترة تكون من مجموعات مختلفة ليس بينها رابط، إذا كيف يمكننا إثبات أثر المؤسس؟ لا يمكننا إثبات ذلك إلا بوجود علامة جينية مشتركة بين المجموعات الفرعية، ويعتبر جين فقر الدم المنجلي تلك العلامة الجينية، فكما ذكرنا سابقا عثر على عظام أفراد في كل مقبرة تشير إلى أن صاحبها كان يعاني من فقر الدم المنجلي. الحصول على هذا الدليل المادي الذي يثبت وجود عامل جيني مشترك بين الجماعات التي كانت تعيش في مناطق مختلفة على جزر البحرين وهذا يثبت حدوث انصهار الجماعات المختلفة التي استوطنت البحرين قديما في مجموعة واحدة، وذلك في الفترة التي أثرت فيها أحداث عنق الزجاجة، ويثبت لنا أيضا أن المجموعات المتكونة في العصر الهلنستي تكونت في الأساس من مجموعات بسيطة انفصلت عن المجموعة الأم، أو بمعنى آخر أن الجماعة الأم التي تكونت من جراء اندماج جميع الجماعات البشرية في جماعة عادت لتنقسم على نفسها مكونة جماعات صغيرة منتشرة لتصبح النواة التي ستنمو وتكون لها خصائص ثقافية مميزة لها ربما تختلف عن الجماعة الأم، لكنها ستبقى تحمل دائما العلامة الجينية المميزة للجماعة الأم، والتي أصبحت عاملا مشتركا بين جميع الجماعات الفرعية. كذلك، إن استمرار تلك الأمراض الوراثية التي تحولت لعلامات جينية (كما سنرى لاحقا) حتى يومنا هذا هو دليل انصهار الشعوب المختلفة التي استوطنت البحرين وتكوين شعب واحد مميز وهو دليل أيضا على الامتداد الحضاري للشعوب التي سكنت البحرين.
ظهور القبائل العربية
الفترة الهلنستية في البحرين شهدت ازدهارا في الزراعة من جديد وازدياد أماكن الاستيطان في البحرين، مما أدى لوفود شعوب أخرى تزاوجت مع الشعب المتبقي من حضارة دلمون. و كل جماعة جديدة تفد البحرين تبدأ بالالتفاف حول إحدى المجموعات الفرعية التي سبق الحديث عنها، وبذلك تكتسب العلامات الجينية المميزة. وقد استمرت الهجرات إلى البحرين بعد ذلك حتى مجيء القبائل العربية قرابة 300م، ومن تلك القبائل العربية بكر بن وائل وتميم وإياد، وكانت قبيلة عبدالقيس هي آخر القبائل وأقواها، والتي سيطرت على البحرين.
القبائل العربية وآليات النقل الثقافي
يلاحظ أن القبائل جاءت من البادية إلى بيئة مستقرة تعتمد على الزراعة وصيد البحر، وهذا يعني حدوث تغير سريع جدا بالنسبة لبيئة هذه القبائل التي يتوجب عليها الآن أن تتكيف مع هذه البيئة الجديدة. لا نعلم متى بالتحديد حدث التفاعل بين القبائل والشعوب المستقرة في البحرين، لكن شيئا فشيئا حدث توغل لثقافة الشعوب المستقرة للشعوب القبلية الجديدة. وقد اكتسبت الشعوب القبلية ثقافة جديدة مكنتها من الاستمرار في البيئة الجديدة، ويمكننا أن نعرض هنا آليتين لطرق اكتسابها الثقافة الجديدة، الأولى التوغل الثقافي الأفقي والذي يقصد به أن الجماعة الجديدة اقتبست جزءا من ثقافة الشعوب المستقرة في البحرين نتيجة تعايشهم جنبا إلى جنب، وفي هذه الحالة قد يكون انتقال الثقافة للمجموعة الجديدة سريعا اعتمادا على مدى تعرض الشعوب القبلية لثقافة الشعوب المستقرة، وقد تكتسب الشعوب القبلية الثقافة الجديدة في سن مبكرة (أي بين الأجيال) أو في سن متأخرة (ضمن نفس الأجيال). الآلية الثانية هي التأقلم المحلي ويقصد بذلك أن الجماعة الجديدة في سبيل تأقلمها مع الحياة الجديدة لا بد أن تمتلك ثقافة معينة تمكنها من سلك نظام حياة جديد بدلا من حياة البادية، وكذلك تمكنها من تجاوز التحديات البيئية الجديدة التي يفرضها نظام الحياة الجديد، وتتميز هذه الآلية بتقييم البدائل المتوفرة أو حساب الربحية أو اختراع طرائق معينة.
ويلاحظ هنا أن طبيعة بيئة البحرين التي تساعد على حياة الاستقرار هي التي فرضت هذا النوع من التغيير على هذه المجموعات القبلية الوافدة.
القبائل العربية والنقل الجيني
إن النقل الثقافي غير كاف ليضمن بقاء هذه القبائل على جزيرة البحرين، رأينا في حلقة سابقة ماذا يحدث للشعوب التي تستقر في هذه الجزيرة، حيث يحدث لها غربلة عن طريق أحداث «عنق الزجاجة» حيث تبقى الشعوب الأفضل تأقلما مع البيئة وترحل الأخرى. الشعوب القبلية القادمة لا تحمل جين فقر الدم المنجلي، أي أنها أكثر عرضة للموت بسبب الملاريا، فلا يوجد العديد من الخيارات أمام هذه الشعوب، إما أن ترحل أو تستسلم لمرض الملاريا أو أن تتزاوج مع الشعوب المستقرة، وبهذه الصورة تتوارث الجينات والثقافة معا وتصبح أكثر تكيفا مع البيئة الجديدة.
انصهار الخليط السكاني في كتلة واحدة
بدأت الشعوب القبلية في الاندماج شيئا فشيئا حتى انتشرت تلك القبائل العربية في المدن والقرى، وخالطوا السكان القدماء، وشاركوهم في أسلوب حياتهم، وزاولوا الزراعة والصناعة. وقد كانت المدن في ذلك العهد تزخر بخليط من السكان، كالنبط وهم جالية من الكلدان والسريان، والزط وهم السبابجة من جاليات السند، كما توجد فئة تسمى الجرامقة وهم جالية من العجم والأنباط وشعوب من كيش (قيس) ومكران (بلوشستان) بالإضافة إلى الجالية الفارسية، التي كانت تتمتع بنفوذ سياسي، ومكانة اجتماعية، لاسيما حين سيطرت الدولة الفارسية على البلاد.
وهذه الجاليات كانت لها تقاليدها ودياناتها كالمجوسية واليهودية والنصرانية والوثنية، وهي معروفة حتى بعد ظهور الإسلام وكانت تتمتع بالمراكز الإدارية والجاه والنفوذ، وتسيطر على الحياة الاقتصادية. ولكن بدخول القبائل العربية يبدو أن تلك الجاليات قد فقدت رصيدها الاجتماعي والسياسي والاقتصادي خاصة بعد حروب الردة، وتضاءل وجودها في المجتمع، بعد أن سيطر بنو عبدالقيس، فلم يعد لها ذكر فيما بعد. وقد تغلبت العناصر العربية المتمثلة في قبيلة عبد القيس والقبائل المنضوية تحتها من بكر بن وائل وبني تميم، فكتبت لها السيادة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وأذابت الشعوب القديمة في بوتقتها حتى طبعت التركيب السكاني في المنطقة بطابعها، بانتشار أفخاذها في المدن والأرياف والبادية.
لقد تقبلت الشعوب غير العربية اللغة العربية، فتسرد لنا المراجع الكلاسيكية كيف طلبت تلك الجماعات غير العربية من قبيلة عبد القيس أن تضمها لها وتنتسب إليها، وقد حدث نوع من المساومة مع قبيلة عبدالقيس حيث خيرت عبدالقيس بين أن تقبلها أو أن تنضم لقبائل أخرى منافسة لعبدالقيس. الشاعر ابن مقرب العيوني بعد أن ضعفت الدولة العيونية بدأ ينظر لأفراد شعب البحرين الذين يعتبرون أحفاد عبدالقيس لكن لا توجد فيهم سمة قبلية بل إنهم يتفاخرون بالزراعة، ثم يسوق الشاعر نتيجته أن حقيقة اندماج قبيلة عبد القيس بدماء غير قبلية ليست خرافات كما زعم البعض، بل كل ماروي في ذلك هو حقيقة.
نستنتج مما سبق كيف تكوّن شعب البحرين القديمة (جزر البحرين وشرق الجزيرة) الذي ساد عليه العرق العربي فيما بعد إلا أن تأثيرات الأعراق الأخرى لم تندثر كليّاً، فبعض الصور الجينية لتلك الشعوب القديمة والتي لها ميزات انتقائية كفقر الدم المنجلي والثلاسيميا بقيت وانتشرت بسبب انتشار مرض الملاريا في تلك المناطق. وتم توارث تلك الأمراض حتى يومنا لتبقى شاهدا على أصالة شعب هذه الأرض.
تكون القرى المختلفة في جزيرة البحرين
أسئلة كثيرة تطرح عن كيف تكونت القرى العديدة إذا كان الشعب القديم انصهر في كتلة واحدة، الإجابة على هذا السؤال بسيطة جدا، لكنها تستلزم منا أن نقدم الدليل العلمي الواضح الذي يعزز إجابتنا. الجماعة المتجانسة من السكان التي تكونت جراء اندماج القبائل العربية مع الشعوب القديمة، والذي بدأ منذ بداية استيطان تلك القبائل وعلى مدى سنوات طويلة، بدأت بعد ذلك بالانقسام على نفسها مكونة القرى المختلفة. إذا كانت هذه النتيجة التي سقناها صحيحة فبالتالي يجب أن يكون هناك عامل جيني مشترك بين أهل القرى المتكونة من الجماعة الأصلية، ويتوجب أن تكون هناك لهجة عامة مشتركة بين هذه القرى لها خصائص تميزها عن غيرها من اللهجات، ولا يلغي هذا أن تتكون مجموعات فرعية لها لهجات فرعية مشتقة من اللهجة الأم المتكونة، وذلك إذا ما أخذنا في الاعتبار ثراء جزيرة البحرين بالمقومات الطبيعية التي تعزز انعزال المجموعات السكانية عن بعضها البعض.
إذن سيتوجب علينا في الحلقات القادمة إثبات وجود العلامة الجينية المشتركة التي تثبت الامتداد التاريخي للجماعات السكانية وكذلك دراسة لكيفية تكون لهجة مميزة لتلك الجماعات السكانية وكيفية انقسامها على نفسها لتكوين لهجات فرعية.
بقلم الباحث: حسين محمد حسن الجري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

*