التطور الثقافي/ الحضاري لمجتمع البحرين القديم

85744565في الحلقات السابقة ناقشنا تطور المجتمع البحريني من عدة نواحٍ وبقي أن نناقش التطور الثقافي للمجتمع البحريني القديم وهو موضوع معقد بعض الشيء ولذلك لا يمكننا أن نناقش ذلك في حلقة واحدة ولا بد أن نخصص لذلك سلسلة مواضيع. ولكن قبل البدء بمناقشة التطور الثقافي للمجتمع البحريني هناك مجموعة من الأسئلة التي يجب أن نجيب عليها, فقد تطورت كثيرا أساليب دراسة التطور الثقافي وهناك عدد من النظريات التي تتنافس فيما بينها منذ أكثر من ثلاثين عاما وقد نتج من ذلك التنافس تطور سريع في تلك النظريات, لست هنا لأروج لنظرية معينة ففي حقيقة الأمر هناك جزء من هذه

النظريات لا نتقبله كوننا مسلمين إلا أن هناك جزءا من تلك النظريات حقائق متفق عليها وجزءا آخر يجيب على تساؤلات ما كنا لنجيب عليها لولا تلك  النظريات التي أثرت النقاش. الأسلوب الكلاسيكي الوصفي الذي استخدم في نقاش الأساطير أو الطقوس أو التقاليد في المجتمع البحريني يحتاج لتطوير حسب النظريات الحديثة. فعلى سبيل المثال قد تقرأ في أحد المقالات يذكر في المقدمة «هناك إمداد ثقافي/حضاري يمتد لأكثر من 5000 عام» مقدمة رائعة, و لكن ما أن تصل لمتن المقال يتبدد كل شيء فلا ذكر لآليات نقل ثقافي أو آليات تغير ثقافي أو عبر أي الجماعات البشرية حدث ذلك النقل, إن كان هناك إمداد ثقافي فلماذا لا يوجد إمداد جيني؟ هذه الأسئلة وغيرها التي تقف في وجه الكاتب في متن المقال تحيله على خاتمة ليس لها صلة بالمقدمة حيث يبين أن هذا التقليد أو الطقس انتقل من الهند أو من أي مكان آخر في فترة التجارة معها. إن هذه المنهجية في النقاش لا تضيف الجديد عن التطور الثقافي للجتمع البحريني, وعليه قبل أن أعطي أمثلة لأساطير أو طقوس قديمة في الثقافة البحرينية يتوجب أن أعطي مقدمات للنظريات الحديثة وكيف نستخدمها في الإجابة على الأسئلة التي تعترضنا أثناء تحليلنا للطقس وكيفية انتشاره.
التطور والتنوع الثقافي/الحضاري
كل حضارة تحتوي على كم كبير من المعلومات, وأجزاء من هذه المعلومات مخزنة في الدماغ البشري. وهذا الكم من المعلومات ينتقل بين الأفراد والمجتمعات وكذلك ينتقل من جيل لآخر. وبما أن كل مجموعة تنقل لها معلومات تختلف في أجزاء منها أو كلها عن الجماعة الأخرى هذا سيؤدي لتنوع ثقافي/حضاري بين المجوعات البشرية, وإن أي محاولة لتفسير السلوك الإنساني يجب أن يأخذ في الاعتبار كيفية حدوث هذا التنوع الثقافي الحضاري. والاختلافات الثقافية ليست فقط بين المجموعات التي تعيش في نفس الفترة وإنما هناك فروقات ثقافية بين أجيال المجموعة الواحدة. فلو افترضنا أن هناك جماعة من الأفراد ولنسميها الجماعة (س) تتحدث لهجة واحدة ولها عقيدة واحدة وعادات وتقاليد واحدة فهؤلاء الأفراد يفكرون وينتحون سلوكا مغايرا لأفراد من مجموعات أخرى بسبب اختلافات في الثقافة التي نقلت لهم. الأفراد أو الأجيال الناتجة من المجموعة (س) بعد مدة من الزمن و لنقل 100 عام سيكونون متشابهين في العديد من المعلومات الثقافية مع المجموعة الأصل, ولكن سيكون هناك أيضا اختلافات فبعض المعلومات ستختفي من الجيل الجديد, وهناك معلومات جديدة اكتسبها الجيل الجديد لم تكن موجودة في الجماعة الأصل. ماذا لو نظرنا للأجيال القادمة بعد 1000 عام, ما هي المعلومات التي ستبقى لمدة 1000 عام؟ وأيهما ستنقرض؟
لنعيد بلورة السؤال مرة أخرى هل تمتلك بعض المعلومات الثقافية ميزات معينة تجعلها تستمر لأكثر من 1000 عام؟ هناك أسئلة أخرى علينا أن نطرحها هنا أيضا, فبعض المعلومات الثقافية كالطقوس غير المرتبطة بالدين التي تمارس في بعض المناسبات, تلك الطقوس لها مظهر وهو ممارسة الطقس نفسه, لكن لها جوهر أيضا وهو سبب نشوء الطقس نفسه, والسؤال هنا, هل ينتقل الجوهر والمظهر معا؟ أم ما ينتقل هو المظهر أما الجوهر فيضيع أصله؟ والسؤال الثالث الذي سنطرحه هو كيف نحدد في أي الجماعات نشأت معلومة ثقافية معينة؟ وكيف انتقلت من مجموعة لأخرى؟.
إن مثل هذه الأسئلة لا يمكننا الإجابة عليها دون التطرق للنظريات الحديثة التي ناقشت انتقال الثقافة وتطورها. تلك النظريات تدرس الثقافة من أكثر من ناحية وبأكثر من منهج, منها ما يتناول معلومة أو وحدة ثقافية واحدة وما تمتلكه من إيجابية اختيارية تمكنها من الانتقال من شخص لآخر ومن جيل لآخر أو بمعنى آخر يحدث هناك ما يشبه «الاختيار أو الانتخاب الطبيعي» لمجموعة من الوحدات الثقافية, وبهذه الصورة نلاحظ نظرة البعض للتطور الثقافي على أنه يتبع سلوك داروني, وقد استخدم البعض مصطلح «الانتخاب الثقافي» ليدلل على «الاختيار الطبيعي» للوحدات الثقافية. هناك منهج آخر لدراسة الوحدات الثقافية يعتمد على تحديد العلاقات بين الثقافة والجينات, يطلق على هذا المنهج «الوراثة المزدوجة» أو «التطور المتزامن». وتركز غالبية ما نشر في هذا المنهج الأخير على مفهوم آليات تطور الثقافة و خصائصها.
الميمات أو الوحدات الثقافية
تتكون الثقافة من وحدات, هذه الوحدات هي التي تنتقل من شخص لآخر في نفس الجيل أو بين الأجيال قد تكون تلك الوحدة الثقافية عبارة عن فكرة أو معلومة أو أسطورة أو حكاية أو طقس أو قيمة, و قد عرفت هذه الوحدة بأكثر من اسم كالجين الثقافي أو السيمة وجمعها سيمات ولكن الاسم الأكثر انتشارا هو الميمات ومفردها ميمة وهي التسمية التي ابتدعها دوكنز عام 1976م, فكل فكرة هي ميمة وكل معلومة ميمة وكل طقس ميمة وهكذا. إلا أن البعض لا يحبذ استخدام هذا المصطلح لأنه مشتق من جذر بمعنى محاكاة, ولأن دوكنز افترض أن وحدات الثقافة تنتقل بالمحاكاة وقد تأسست نظرية الميمات على الفرضيات الأولية لدوكنز. وقد استسهل البعض استخدام لفظة «ميمة» تسهيلا بدلا من استخدام مصطلح «وحدة ثقافية» أو أي مصطلح آخر غير مشهور. حتى بعض المعارضين لنظرية الميمات استخدمت مصطلح الميمات, وغيرهم من المعارضين ابتكروا مصطلح السيمات إلا إنه لم يشتهر. شخصيا أفضل استخدام مصطلح الميمات للدلالة على الوحدات الثقافية تسهيلا واختصارا في الكتابة.
نظرية الميمات وكيفية بقاء الميمات
تتمحور فكرة نظرية الميمات على أن الميمات تختلف في قدرتها على البقاء أي تكيفها مع البيئة الثقافية الاجتماعية التي تنتشر فيها, التغير الذي يحدث في الميمات واندماجها مع ميمات أخرى يؤدي لظهور عدد من الميمات التي تتنافس فيما بينها لتجذب عقول الناس, وستكون الميمات الأفضل هي تلك التي تصل لعقول الناس وتنتشر في عقول أكبر قدر من الناس. ينتج من ذلك ديناميكية تطورية تعمل على إنتاج أشكالا من الميمات يتبع ذلك حدوث انتخاب طبيعي للأفضل منها. وبذلك يتحقق مبدأ داروين في البقاء للأفضل.
ويرى دوكنز أن الميمات تتناسخ وتنتقل من شخص إلى آخر ومن جيل إلى آخر ومن زمن أو فضاء إلى آخر، وما يحركها -في هذا المسلسل من التكرر والمحاكاة (الميماتية)- هو أن تتطور لتصبح قادرة على (1) أن تكون نُسخها أمينة مطابقة لها (2) وأن تكون خصوبتها قوية بحيث تولد أكبر عدد ممكن من مثيلاتها (3) وأن تكون مدة بقائها في الوجود أطول ما أمكن.
التشابه بين الجينات و الميمات
تسمى الجينات مُكرِّرات (replicators) لأن لها القدرة على عمل أكثر من نسخة منها أي تتناسخ. وتنتقل الجينات على نحو مطابق للأصل من الأبوين إلى الأبناء، وتتحكم في آلية الحياة. لكن الجينات لا تبقى دائما على صورتها فالانتقال المطابق للأصل يتيح عملية للانتقاء (الانتخاب) الطبيعي أن يفعل فعله: فالجينات ذات الانتقائية الإيجابية تمنح حامليها بُقيا أفضل، أو توالدًا أسرع من حَمَلة الجينات الأخرى, وقد ذكرنا مثال ذلك في حلقات سابقة عن الجين المسبب لمرض فقر الدم المنجلي ومرض الملاريا وبهذه الصورة تنتشر الجينات ذات الانتقائية الإيجابية بصورة أكثر في التجمع السكاني. وهناك آليات أخرى تؤدي أدوارا حاسمة في عملية تطور صور الجينات كالطفرات مثلا. وعليه يمكن تفسير التكيف أو التلاؤم الأفضل بتعريف الجينات التي تتنسخ بأعلى معدل ممكن. إن لهذه القاعدة البسيطة قوة مذهلة، وتتيح للبيولوجيين فهم ظواهر متباينة جدا. إذن فالجينات, كما لاحظنا, هي مكرِّرات تمتلك ثلاث خاصيات أساسية هي: التكرار (القدرة على النسخ) والتغاير والانتقاء.
لقد كان دوكنز أول من أطلق على المعلومات المستنسخة تعبير المُكرِّر، وأشار إلى أن أكثر المكررات المعروفة هي الجينات. ولكنه رغب في تأكيد أنه بالإمكان أن يستند التطور إلى أي مكرر من المكررات وليس الجينات فقط. وبناء على ذلك ابتكر دوكنز فكرة الميمات, والتي تحولت بعد ذلك لنظرية لها روادها عرفت باسم نظرية الميمات. ويرى الباحثون في نظرية الميمات أن الميمات هي أيضا مكرِّرات وإنها تنتسخ بأمانة من عقل إلى آخر، وتتحكم في سلوك من يكتسبها من الناس. وإذا كان الأمر كذلك، فإن تطور الأفكار ـ كما يقترحون ـ أخذ شكله هو الآخر بوساطة الانتقاء أو الانتخاب الطبيعي لميمات دون أخرى, ويستمر من بين جميع هذه المتغايرات بعضها فقط، ليُستنسخ عددا من المرات؛ في حين أن بعضها الآخر يموت. فالميمات هي إذن مكرِّرات واقعية، تمتلك الخاصيات الثلاث كلها: التكرار والتغاير والانتقاء.
ويرى دوكنز أن الجينات أنانية فهي تتنسخ لأجل مصلحتها الذاتية وبما أن الميمات هي مُكرِّرات، فإن على هذه الميمات أيضا أن تعمل لمصلحتها الأنانية الذاتية: تتنسخ كلما وجدت إلى ذلك سبيلا. إنها باستمراريتها تصوغ عقولنا وحضاراتنا (ثقافاتنا) أيَّما كان تأثيرها في الجينات. وتعتبر فكرة الميمات الأنانية هي فكرة محورية ضمن نظرية الميمات. ويعطي الباحثون في هذه النظرية أهمية كبيرة للمحاكاة أي التقليد كآلية لنقل الميمات تليها عملية الانتخاب الطبيعي للميمات. وقد بالغ البعض في قوة المحاكاة والانتخاب الطبيعي كآليات من آلية التطور الحضاري للبشرية, وفي هذا الصدد يعتبر أقوى تلك الاقتراحات ذاك الذي تقدمت به العالمة النفسية سوزان بلاكمور في كتابها مكنة الميمات meme machine والذي أثار عاصفة من الجدل، ويتمثل هذا الاقتراح في أن مقدرة البشر الخارقة على التقليد (ومن ثم نقل الميمات) هي التي فصلت نوعنا عن الأنواع الأخرى. وترى بلاكمور أن الميمات كانت (ولا تزال) قوة جبارة تعمل على صياغة تطورنا الحضاري والبيولوجي.

بقلم: حسين محمد حسين الجمري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

*