مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين كانت القرية البحرانية قد دخلت في مرحلة جديدة فيما يتعلق بتاريخها السياسي والإداري. ففي هذه الفترة تلاشت بقايا النظام الذي كان يحكمها وبدأت أنظمة جديدة بالظهور لتمارس سلطتها رغما على إرادة أهالي القرى، وذلك بعد أن تمت السيطرة على خيرات القرى وتكاثرت المظالم. سنحاول الآن وفيما يلي استعراض معالم النظام المفروض على القرية البحرانية والآثار التي ترتبت على ذلك. ما سنقوله لاحقا له علاقة مباشرة بالسؤال الأساسي الذي يسأله الشباب اليوم هو كيف تمت السيطرة على القرى ومصادرة خيراتها وأين هي شواهد المقاومة والرفض ؟
قبل تقديم أي إجابة من المهم الإحاطة بطبيعة النظام الجديد وكيف كان يدير البحرين والقرى، لأن ذلك سيمهد كثيرا لفهم كيف حدثت السيطرة والاستيلاء. ومن المهم الإشارة أيضا إلى أن البحرين رغم تعرضها لكثير من الغزوات والاحتلال من قبل قوى خارجية، رغم ذلك فإن تلك القوى لم تتدخل كثيرا في الشؤون الداخلية للأهالي وعادة ما كانت تكتفي بجباية الضرائب بل إن قوة غازية مثل القوة العمانية عندما غزت البحرين سنة 1801 عينت شخصا من الأهالي هو محمد بن خلف العصفور ليكون وصيا ومعاونا لسالم بن السلطان العماني حيث كان سالم في سن الرابعة عشر. الاستيلاء الأخير الذي حدث في العام 1783 كان مختلفا من حيث تدخله في الحياة الداخلية وفرضه لنظام سياسي وإداري مختلف بل ومتعارض مع الطبيعة الاجتماعية والثقافية لأهالي القرى وهو ما سنتناوله لاحقا.
في دراسته الرائدة قدم إسحاق الخوري بحكم إطلاعه على وثائق وتفاصيل غير منشورة لحد الآن، وصفا دقيقا لأنظمة الضبط التي استخدمها النظام الجديد في بسط سيطرته على القرى. ويعتبر نظام الفداوية واحد من أشرس الأنظمة التي عرفتها القرى البحرانية واستخدمت لفرض السيطرة على القرى فضلا عن ذلك فالفدواية كنظام أمني يعتمد على فرض القوة والإكراه وأداة من أدوات فرض النظام الجديد، لم يكن يعمل من خلال قانون أو جهاز رقابي، وهو يقترب من نظام الميلشيات الحالية في ممارسته الخارجة على القانون و حجم البطش والقمع المستخدم ضد الأهالي. وقد دفعت ممارسات الفداوية الشرسة العديد من أهالي القرى إلى الهجرة من البحرين وإلى دمار بعض القرى.
كان نظام الفداوية حاجة ضرورية للنظام الجديد لفرض قوته وسيطرته على الأهالي والقرى وعبر عن رؤية إدارية مختلفة عن رؤية القرى البحرانية . فكان كل حاكم مقاطعة يستعين بهيئة إدارية كبيرة تعمل تحت إمرته الشخصية، تتشكل هذه الهيئة من أمير ومجموعة من الفداوية والأمير نفسه كان بالأصل فداويا نال ثقة الحاكم ورعايته. ويذكر الخوري أن أمراء المنامة والمحرق وفداويتها هم قوم لا يتمتعون بأصول قبلية واضحة ومعروفة وهم ما يطلق عليهم في العرف القبلي ببني خضير وعادة ما يكونون عبيد أو مجهولين النسب أو من قبائل متواضعة أو من البلوش . كان الفداوية بتعبير الخوري أداة القسر التي يستعملها الحاكم لتنفيذ إرادته أو إرادة من ينوب عنه فكانوا يعتقلون ويستجوبون الأهالي دون الرجوع إلي السلطات الأخرى، حيث ينفذون القانون على هواهم معتمدين القسر والقهر يحملون العصي والأسلحة النارية يستخدمونها في هجماتهم وفرض سيطرتهم على أهالي القرى. في المقابل كان كل حاكم يعتبر هؤلاء الفداوية وأميرهم يدخلون في عهدته وبالتالي فان تكريمهم هو تكريم للشيخ كما أن الإساءة إليهم هي إساءة إليه أيضا. وتتكرر الإشارة إلى بطش الفداوية وممارستهم العنيفة ضد القرى في التقارير البريطانية بكثرة إلا ان تقرير الميجر ديلي الذي كتبه مطلع العشرينات يعتبر وثيقة مهمة من الوثائق التي تدين عمل الفداوية. أما في الموروث المحلي فإن قصص المظالم والانتهاكات التي مارسها الفداوية فهي لا تعد ولا تحصى وسنذكر هنا قصة واحدة تعرضت لها عائلة مرموقة ومحترمة هي عائلة والد ملا عطية الجمري عندما اشتكى أحد الدائنين عليه وعلى أخوته لدى الشيخ الذي كان يحكم المنطقة، وكان ذلك في العام 1909م. كان الشيخ يستعين بمجموعات بدوية قاسية من الفداوية الذين لا يلتزمون بقانون وإنما ينفذون ما يحلو لهم مستغلين أي خلافات شخصية بين أهالي البحرين. وبينما كان أبناء عبد الرسول نائمين هجمت عليهم مجموعة من الفداوية في منتصف الليل ودمرت محتويات منازلهم وصادرت ما وقعت عليه أيديهم واعتقلت محمد بن عبد الرسول، وبدأت بمطاردة علي بن عبد الرسول، إلا أن علي نجا من أيديهم فأخذ زوجته وابنه الصغير (الملا عطية) وهاجر معهم إلى البصرة بالعراق. أما محمد بن عبد الرسول فقد كان كبيرا وخاف عليه أهله من الموت إذا سحبه الفداوية بالخيل (طريقة الاعتقال المتبعة لديهم انذاك). ولهذا ترجوهم لأخذ ابنه منصور مكانه (منصور هو والد الشيخ عبد الأمير الجمري). وهكذا اقتيد منصور إلى السجن مربوطا بالخيل وبقي هناك شهرين مقيدا طوال الوقت حتى أخذ الفداوية ما يريدون. وكان منصور يدرس القرآن ويهتم كثيرا بالطهارة والنجاسة،ولكن مكان سجنه كان هو مكان الخلاء أيضا ولا يسمح له بفك قيده (كما كان الحال لكل معتقل انذاك). ولهذا قام والده محمد بنسج قطع من القماش الثمينة (بشت ومجموعها بشوت) وأعطاها إلى مسؤول السجن للسماح لمنصور بالصلاة في مكان طاهر. وفي يوم من الأيام هرب طير من طيور القنص التابع للشيخ الذي كان يحكم قرية "القرية"، وبدأ الفداوية يبحثون عن الطير. فقيل لهم أن الطير قد حل على المكان الذي يوجد فيه مصنع النسيج . فما كان من الفداوية إلا انهالوا عليه بالضرب المبرح وهددوه ن لم يجدوا الطير فسوف يأخذوه ويقتلوه. ولعلمه بظلم الفدواية وعدم رحمتهم ترك بلده وهاجر إلى البصرة هربا من ظلمهم في حال عدم اصطيادهم الطير الذي هرب من الشيخ.
بجانب نظام الفداوية الذي كان نظاما امنيا شرسا وقوة مخيفة اوجد النظام الجديد نظاما آخر لجني الخيرات والسيطرة عليها عبر وسطاء يتم تعينهم لإدارة مزارع النخيل والبساتين وتجاوزا كان يطلق عليهم بالوزراء في حين أن العلاقة التي كانت تربط هذا الوزير بحاكم المقاطعة هي علاقة تبعية. الوظيفة التي كان يؤمنها هذا النظام هي فرض حالة من الحصار الاقتصادي والتحكم في مصادر الرزق ومحاولة لجعل الأهالي في فقر وبؤس دائم. فلا يحق للمزارعين زراعة الأرض المصادرة إلا من خلال عقود الضمان التي يكون الوزير طرفا في عقدها بالوكالة عن حاكم المقاطعة و إمعانا في زيادة المظالم كانت عقود الضمان عقودا شفوية غير محددة فكلما زاد الإنتاج زادت قيمة الضمان وهو ما يجعل المزارعين في حالة من البؤس لأن إرباحهم معرضة لفرض مزيد من الضرائب ومعرضة للمصادرة تحت عمومية عقود الضمان وشفاهيتها فبعد الاستيلاء على الأراضي والمزارع والنخيل بالقوة. يلجأ المزارع الفقير إلى استئجار الأرض مقابل إعطاء حاكم المقاطعة أغلب خراجها من التمر وباقي المحاصيل. كثيراً ما كان المزارعين وأبناءهم يعملون في أراضيهم التي استولى عليها ، مقابل مال قليل أو محصول زهيد. من هنا فإن نظام السيطرة وفرض القوة اوجد مسوؤلا عن جمع الضرائب بجانب الوزير يسمى "الكيخضات " .
بحكم قيام النظام الجديد على هذه الأنظمة القامعة عاشت القرى البحرانية تحت هاجس الخوف والقلق وكانت معرضة في أي وقت للهجوم عليها ونهب خيراتها وقتل رجالها بل إن قرى هجرت بسبب قيام الفداوية بشن هجمات وارتكاب مذابح فيها كما في تاريخ قرية الفارسية التي قتل فيها الحاج محمد بن يوسف قمبر والحاج عبدالله بن عتيق على يد فداوية الشيخ خالد بن علي شقيق الحاكم الشيخ عيسى بن علي بعد أن أدعي عليه بأنه يحجب المياه عن أرض الشيخ فهجم الأخير مع بعض رجاله على بيت الحاج محمد (برستج)، فتعارك معهم الحاج محمد باليد، وكان عتيداً سريع الغضب. تجمع عليه الوافدون، فوثقوه بالحبل وسحبوه إلى بيت والده وقتلوه أمامه. أما الحاج عبد الله بن عتيق، فقد كان نائما وأيقظته زوجته، فخرج ليستطلع الحادث فأطلقوا عليه النار وسقط ميتاً قرب بيته. وكان أخوه علي قد لحق به فأطلقوا عليه النار أيضاً. لكنه أصيب في رجله وكتفه. كانت هذه الحادثة آخر الوقائع التي جرت في الفارسية. بعدها هجرها أهلها وتفرقوا في القرى المجاورة. الذاكرة الجمعية التي في الناس لا تلك التي في الكتب، تروي عن سيطرة بعض أصحاب القوة على المناطق الغنية بالماء والزرع والنخيل. لذا لم يكن لوريمر بعيدا جدا عن الواقع عندما كتب عن الأحوال الطبيقة في البحرين سنة 1905 وقال : إن حالة طبقة المزارعين البحارنة تحت حكم الشيخ وأقاربه في البحرين هي حال تعسة فهم يشقون بالسخرة الدائمة هم ومراكبهم وحيواناتهم ووضعهم بالنسبة للأرض هو وضع القنّ ( عبد الأرض) وليس وضع المستأجر الذي يملك الحرية. وإذا عجزوا عن أن يسلموا كمية معينة من المحصول ( مما يزداد ظلماً وعدواناً بواسطة خدم الشيخ وأقاربه) فسرعان ما يطردون من منازلهم وفي بعض الحالات يضربون ويسجنون أيضاً. ولبعض البحارنة ملكية اسمية للأراضي بعد أن سمح لهم في الماضي أن يشتروا حدائق ويحصلوا على سندات من أجل ذلك ولكن أملاكهم غالباً تسترجع دون سبب معقول وحتى أبناء الحاكم الحالي يدانون بهذا الظلم وغالباً ما يسرق البدو محاصيل البحارنة فيما هم وحيواناتهم يطوفون بالجزيرة ولا يبدو أن البحارنة يعدمون دون محاكمة منظمة من القاضي ولكن هناك ما يدعو إلى الشك في أن الموت قد يحدث نتيجة سوء المعاملة التي يلاقونها وهم محتجزون في بعض الأحيان، كذلك فنساؤهم عرضة لمضايقات خدم الشيخ، وإذا اضطهد البحارنة أكثر مما يتحملون فإنهم أحياناً يهاجرون إلى واحات القطيف وهي وسيلة تعتبر العلامة الأساسية على عدم إنسانية أسيادهم"
ملحق أعداد الفداوية التابعين لحكام المقاطعات حتى سنة 1905
الشيخ عيسى بن علي شيخ البحرين |
200 |
الشيخ خالد بن علي شقيق الحاكم |
100 |
الشيخ حمد بن عيسى |
80 |
الشيخ محمد بن عيسى |
30 |
الشيخ عبدالله بن عيسى |
30 |
أمير سوق المنامة |
50 |
أمير سوق المحرق |
50 |
المجموع الكلي |
540 |