ارتباط شرطي يثير الوجدان ويحرك المشاعر ينتابني كلما مررت بمنطقة المصلى، الواقعة غرب مدينة جدحفص، وأجد نفسي أردد الآية الكريمة (وما تدري نفس بأي أرض تموت، وما تدري نفس ماذا تكسب غدا) ويعقبها على الفور مقطع من قصيدة معروفة لدى الكثير من البحرينيين :
يا ثاويا في المصلى من قرى هجرا
كسيت من حلل الرضوان أضفاها
أقمت يا بحر في البحرين فاجتمعت
ثلاثة كن أمثالا وأشباها
ثلاثة أنت أنداها وأغزرها
جودا وأعذبها طعما وأصفاها
فمن هو الثاوي في هذه المنطقة ذات الثقل التاريخي العريق، وكيف أصبحت هذه القصيدة المكونة من ثلاثة وعشرين بيتا دليلا من أدلة كثيرة جدا عن عراقة هذه الارض وعراقة شعبها العربي الاصيل .
أنقل القارئ إلى العام 1576م وما سبقه من أعوام، ونلقي نظرة سريعة على أوضاع بعض الدول العربية والإسلامية في تلك الفترة من منتصف القرن السادس عشر الميلادي، وكيف كان الصراع على أشده بين الدولة العثمانية المحتلة للكثير من الدول العربية والإسلامية، والدولة الصفوية في إيران.
في تلك الحقبة من الزمن كانت قبضة الدولة العثمانية حديدية على الدول العربية؛ إذ عانى الكثير من أحرار العرب ومفكريها من جور هذه الدولة ومطاردتها لهم ولافكارهم، وبدأت ظاهرة الفرار من هذا الحكم تعم الكثير من الدول التي طال مفكريها الاضطهاد والتهميش، وقد شكل العراقيون واللبنانيون أكثر الناس هجرة للدول المتقبلة لهم، وكانت إيران من أكثر الدول ترحيبا للفارين من الدولة العثمانية؛ إذ نال هؤلاء المهاجرين الحضوة لدى الحكام والعطف والاقبال من الناس، ومن جملة الفارين من لبنان الشيخ حسين عبدالصمد العاملي وكانت وجهته إيران حيث الشاه طهماسب الصفوي مع جميع أهل بيتة وأتباعه، وفور وصوله فوض إليه الشاه منصب شيخ الاسلام وهنا جن جنون السلطان العثماني سليمان وطلب من الشاه إرجاعه الى لبنان، لما يشكله وجوده في ايران من تعرية لسلوكيات السلاطين العثمانيين، ولكن الشيخ حسين رد عليه بأمر من الشاه برسالة نقتبس منها هذه العبارة (إن جوهرنا من جوهر الشرف لا من جوهر الصدف) وكان يقيم معه ابنه الشيخ محمد حسين العاملي المعروف بالبهائي لقبا وليس طائفة.
في العام 983 هجريه (1575 ميلادية) استأذن الشيخ حسين له ولابنه طهماسب لأداء مناسك الحج، فكان له ما أراد من الشاه، أما ابنه الشيخ محمد فلم يؤذن له وذلك لرغبة الشاه في أن يكون في مقام أبيه، بعد أداء مناسك الحج عرج الشيخ حسين إلى البحرين التاريخية وسكن على وجه التحديد في جزيرة أوال واستحسن الإقامة بها لما وجده من بيئة صالحة لتداول العلوم الشرعية وغيرها من العلوم كما وجد توافقا ورؤية مشتركة مع علماء البحرين، وعلى الفور كتب إلى ابنه الشيخ محمد رسالة – نأمل ان نحصل عليها ونتناولها بشي من التفصيل – لما تحمله من أهمية تاريخية تبرز بعض الأوضاع السياسية والاقتصادية لبعض الدول في ذلك الوقت من الزمن. ومما كتبه (ياولدي لو كنت تطلب شيئا لدنياك فأعمد بلاد الهند وإن حاولت الآخرة فالحق بنا إلى هذا المقام، وإن لم ترد شيئا فلازم العجم ولا تبرح).
البهائي لم يلتحق بأبيه إذ لم يطل به المقام، حيث توفي في 8 ربيع الأول العام 984هجرية ودفن في قرية المصلى ورثاه ابنه الشيخ محمد في قصيدة أوردنا بعض أبياتها في بداية موضوعنا هذا .
هذه هي البحرين قبل 433 سنة بلد الاصالة والجود والكرم الذي جذب الصالحين وما أكثرهم للسكن في هذه الجزيرة الطيبة والتي وصفها شيخنا البهائي بأنها الدار التي تستحق السكن والاقامه فيها لأنها دار خير وإيمان خالص لله سبحانه وتعالى وإن من يقيم فيها يمهد لنفسه لدار الآخرة ونعيمها، وهذه لاشك شهادة تعكس الواقع الايماني الذي يتمتع به أهل هذه الجزر، فماذا يقول الطارئون والمشككون في أصول السكان في البحرين، وماذا تنفعهم أوراقهم المحروقة والتي تدعو فعلا للرثاء، في محاولة من البعض لخلق نوع من التوازن التاريخي.
المنامة – حسن الوردي
الغرفة التي تضم ضريح الشيخ محمد حسين العاملي، ومعه يرقد السيد محمد صالح والسيد عدنان الموسوي