دلمون – باربار: الهوية الحضارية والتثقف من الخارج

2إن الحضارة التي نشأت على جزر البحرين القديمة هي حضارة لها ثقافتها الخاصة وهويتها المحددة، وهي بذلك تكون ولدت وتطورت على جزر البحرين ولم تنقل لها من مكان آخر، بل هي التي انتقلت ووسعت من حدودها فانتشرت في شرق الجزيرة العربية وجزيرة فيلكا. ومن خلال المعطيات الأولية التي سنناقشها في هذا الفصل يمكننا التأكيد لما استنتجه بعض الباحثين وهو أن تلك الحضارة تفاعلت في بدايتها مع حضارات عريقة وقد ولدت نتيجة لحدوث عملية «تثقف من الخارج»

«acculturation» مع تطوير محلي للثقافة المكتسبة، وبذلك أعطت الثقافات المكتسبة طابعاً لهوية جديدة هي الهوية التي عرفت لاحقاً باسم «ثقافة باربار».
ما قبل باربار
بدأ استقرار شعوب معينة على جزر البحرين قرابة 2300 ق. م. حيث أسست جماعة صغيرة في موقع قلعة البحرين قرية صغيرة عبارة عن مجموعة من البيوت المبنية من الحجر. تمثل هذه القرية أقدم طبقة في موقع قلعة البحرين، حيث أطلق عليها اسم «المدينة الأولى» غير أن بيبي من البعثة الدنماركية يعتبر إطلاق اسم مدينة مبالغ فيه، وأنها مجرد قرية. وقد أسفرت التنقيبات في هذه الطبقة عن عدد من قطع الفخار الذي صرح بيبي أنها تعود لثقافة «أم النار» في الإمارات العربية المتحدة بينما يرى كل من لارسن ودانيال بوتس أن أغلب تلك القطع تعود إلى كل من حضارة وادي الرافدين وموقع تيبة يحيى في إيران، بالإضافة لفخار أم النار. ولكن ما يهمنا هنا ليس الفخار المستورد من الخارج وإنما الفخار الذي تم تطويره محلياً، حيث إن هذه الجماعة المحلية لابد أنها احتكت بشعوب أكثر تطوراً منها فتعلمت منها صنعة الأواني الفخارية فأنتجت طرازاً خاصاً بها, وكان أول تطوير لها لصناعة الفخار خرج في صورة أوان فخارية عرفت باسم «chain-ridged ware» وتتميز هذه الأواني بأنها عندما يتم الانتهاء من تصنيعها يتم إضافة عصابات أو أشرطة طينية أفقية دائرية تحيط بالآنية وتكون تلك العصابات متوازية أفقياً تبدأ من أعلى الآنية الفخارية حتى أسفلها, وتتخذ هذه العصابات شكل السلسلة, ومن هنا جاء اسمها «الأواني ذات العصابات الناتئة بشكل السلسلة». وفي بعض الأحيان تكون تلك النتوءات مدببة أو حادة.
بداية ظهور هوية «ثقافة باربار»
فيما بين الأعوام 2200 ق. م – 2100 ق. م بدأت الهوية الحضارية تتطور، حيث بنيت مدينة مسورة فوق أنقاض المدينة (أو القرية) السابقة، وهي المدينة التي عرفت باسم «المدينة الثانية». وتمثل هذه المدينة حقبتي باربار 1 و2، أي أنها أول هوية حضارية خاصة بجزر البحرين. ويتزامن بناء المدينة الثانية مع بناء معابد باربار, أي أن بداية هذه الحقبة تمثل بداية الانتشار على جزر البحرين وبداية نضج الهوية. ويمكننا ملاحظة التطور التدريجي في صناعة الأواني الفخارية، ففي الطبقات الأولى للمدينة الثانية تتناقص الآنية ذات العصابات الناتئة بشكل السلسلة وذلك بتطوير تلك النتوءات فلم تعد حادة أو بشكل السلسلة أو تضاف بعد صنع الآنية فقد أصبحت تصنع من نفس العجينة وذلك عن طريق الضغط بالإصبع فأصبحت العصابات أو الأشرطة الأفقية كالدوائر المسطحة أي مستديرة الأعلى. بعدها تطورت تلك الآنية لتستقر على أشرطة بشكل حزوز حمراء ناتئة «red-ridged ware» وهو الفخار الذي انتشر بصورة واسعة في حقبتي باربار الأولى والثانية وهو منتشر في جميع طبقات معابد باربار ومدينة سار الدلمونية، وقد عرف هذا الفخار لاحقاً باسم «فخار باربار» أو «فخار دلمون».
الأختام وبداية نضج الهوية
كانت الأختام تستخدم كوسيلة لتنظيم التجارة وإدارة المجتمع، حيث كان يستخدمها الأفراد العاديون والرسميون, وقد كانت تستخدم لختم الوثائق من شتى الأنواع والعقود والبطاقات والعلامات الملحقة بالبضائع، وكانت شهادة لإثبات صحة الأصل والملكية. وقد عرفت منطقة الخليج قديماً ثلاثة أشكال أساسية من الأختام, الأختام هي: أحادية الوجه المكعبة الشكل التي كانت تخص حضارة وادي السند والأختام الأسطوانية التي تخص حضارة وادي الرافدين، والنوع الثالث هي الأختام أحادية الوجه دائرية الشكل التي تطورت في جزر البحرين. وقد بدأ تصنيع الأختام في جزر البحرين قرابة العام 2050 ق. م وتطورت عبر السنوات اللاحقة. ويمكن متابعة بداية وتطور الأختام بصورة متزامنة مع تطور الهوية الحضارية لحضارة باربار.
المميزات العامة لأختام دلمون
بصورة عامة تتخذ أختام دلمون شكل ختم أحادي الوجه، حيث يكون وجهها الأمامي مسطحاً دائرياً لا يتعدى قطرها 3 سم إلا نادراً وينقش عليه رسومات ورموز مختلفة ذات خصوصية معينة, أما الوجه الخلفي فمقبب الشكل ويتخذ شكل زر, وفي أسفل الزر يوجد ثقب مثلث معمول من أجل إدخال خيط أو خاتم نحاسي يتدلى منه الختم على دبوس أو عقد ليستخدم عندما يراد طبع دمغة منه على الطين الرطب. وغالبية الأختام مصنوعة من حجر الإستاتيت أو الحجر الصابوني الناعم الذي يسهل الحفر عليه ولكنه يصبح صلباً عندما يسخن ولهذا عندما يجهز الختم يحرق ويزجج. أما في ما يخص تحليل الرموز والرسومات التي توجد على الوجه الأمامي فقد تم نشر الأختام التي عثر عليها في البحرين في العام 1999م في كتابين منفصلين أحدهما لخالد السندي والآخر لهاريت كروفورد, ما يهمنا في هذه الأختام هو التطور العام الذي حدث لها والذي له دلالات في بلورة الهوية الحضارية.
تطور أختام دلمون
تصنف أختام دلمون في ثلاث مجموعات أساسية هي: أختام الخليج العربي وأختام ما قبل دلمون وأختام دلمون المبكرة.
1 – أختام الخليج العربي
وهي أختام تصنع عادة من أصناف من الحجارة غير محددة وهي حجارة صلبة وداكنة ومبقعة نوعاً ما, وتتميز بالجزء الخلفي الذي يشبه القبة محفور في وسطها خط أو خطين. أما الوجه الأمامي فيحمل رموزاً أو أشكالاً أو علامات لها علاقة بحضارة وادي السند. وتقسم هذه المجموعة لمجموعتين أساسيتين بالإضافة لمجموعات فرعية أخرى, الأولى هي شبيهة تماماً بأختام حضارة وادي السند ما عدى أن شكل الدمغة دائري وليس مربعاً كما هو في أختام وادي السند, أما المجموعة الثانية فهي متأثرة بأختام حضارة وادي السند كون وجهها الأمامي يحمل مزيجاً من العلامات والأشكال منها ما يخص حضارة وادي السند وقد أطلق البعض على هذه الأختام «الأختام الناتجة من عملية التثقف من الخارج» (سنعود لها لاحقاً) (During Caspers 1995).
2 – أختام ما قبل دلمون Proto-Dilmun
تعتبر هذه الأختام انتقالية بين أختام الخليج السابقة الذكر والأختام الدلمونية المبكرة اللاحقة الذكر. صنعت غالبية هذه الأختام من الحجر الصابوني وبعضها مازال يصنع من الحجر الصلب المبقع, وحجم هذه الأختام عادة أكبر من النوع السابق. ولا يختلف الوجه الأمامي عن الوجه الأمامي للأختام السابقة الذكر (أي أختام الخليج العربي) من حملها رموزاً تخص حضارة وادي السند لكنها تختلف في الوجه الخلفي، حيث ينصف التحدب الخلفي بأكثر من خط قد يكون اثنان أو ثلاثة مع وجود أربع دوائر محفورة اثنتان على كل جانب من الخطوط القطرية.
3 – أختام دلمون المبكرة
هي أختام تشبه في الشكل أختام ما قبل دلمون من حيث وجود ثلاثة خطوط قطرية تنصف التحدب الخلفي وأربع دوائر محفورة على جانبي تلك الخطوط, أما الوجه الأمامي فأصبح خالياً من أي إشارة لحضارة وادي السند، فقد بدأ يتخذ هوية مستقلة بذاته.
تطور الهوية الحضارية لحضارة باربار
من خلال العرض السريع السابق لأهم أنواع الفخار المحلي وأقسام الأختام يمكننا رسم صورة لكيفية تطور الهوية الحضارية لحضارة باربار أو دلمون – البحرين عن طريق التثقف من الخارج مع التطوير المحلي.
التثقف من الخارج
لأخذ فكرة عن معنى التثقف من الخارج نقتبس هنا ما جاء في معجم مصطلحات الأثنولوجيا والفولكلور:
يشير مصطلح «تثقف من الخارج» إلى نوع معين من الاكتساب الثقافي الذي يجب أن تتوافر فيه صفتان أساسيتان. أولاً: تتم العملية في شكلها الأساسي في الأنماط السلوكية الثقافية – وليست الفردية – لجماعة (أو لفرد) قد اكتسبت ثقافة مجتمعها الذي نشأت فيه. ثانيًا: تتم العملية عن طريق اكتساب ثقافات جديدة بأكملها تختلف نوعيًا عن ثقافة الجماعة الأصلية – أي ثقافة جديدة تدخل بشكل مؤثر على ثقافتها التي نشأت عليها – وتسيطر على سلوكها. فهي إذن عملية تثقف من خارج ثقافة الجماعة… ويجوز – من الناحية النظرية – أن يكون التثقف من الخارج اكتساب ثقافة مجتمع أكثر تحضرًا، ويجوز كذلك أن يكون اكتساب ثقافة مجتمع أقل تحضرًا من ثقافة الجماعة التي تمر بهذه العملية. أي أنها ليست بالضرورة عملية «تحضر» على نحو ما يشير مصطلح «تحضير» الذي يقترحه أحمد أبو زيد في الترجمة لكتاب الإثنوبولوجيا الاجتماعية… ويعتبر المصطلح البديل الذي يقدمه أبو زيد وهو «اكتساب وتمثل ثقافات أخرى» أدق من مصطلحه الأول وأكثر تعبيرًا عن طبيعة العملية.
الثقافة التي أثرت في بداية «ثقافة باربار»
يبدو أن حضارة وادي السند هي الأكثر تأثيراً في بداية نشأة «ثقافة باربار», على الرغم من أن الأكثر ملاحظة سيطرة حضارة وادي الرافدين على حضارة باربار وحتى السيطرة السياسية اللاحقة كانت لحضارات وادي الرافدين, ولكن عند التدقيق يمكننا ملاحظة تأثيرات حضارة وادي السند, وقد تناولنا سابقاً في جزء بناء النموذج التأثيرات الجينية القادمة من حضارة وادي السند لذلك لن نتناوله هنا وسيقتصر حديثنا على ثلاثة أمور مهمة:
1 – نوعية الأوزان
عثر في المستويات الأولى من المدينة الثانية على أوزان حضارة وادي السند، وقد تم مناقشة هذه الأوزان ومقارنتها بأوزان حضارة وادي الرافدين من قبل عدة باحثين راجع على سبيل المثال (Powel 1983).
2 – فخار باربار وحضارة وادي السند
ينقل عبدالنعيم عن بيبي ملاحظته على فخار باربار، حيث يؤكد بيبي أن فخار باربار له مميزاته الخاصة، ولكن له شبيه قريب جداً في حضارة وادي السند وخاصة وجود العصابات أو الأشرطة الأفقية التي تصنع عن طريق الضغط بالإصبع (Nayeem 1992, p. 316). فربما نشأ هذا الفخار من جراء عملية تقليد لنموذج حضارة وادي السند.
3 – الأختام وحضارة وادي السند
تطور الأختام واضح ولا يحتاج لتفصيل فقد بدأ بختم مطابق لختم حضارة وادي السند باستثناء تغير شكل الدمغة من مربع لدائري, بعد ذلك مر هذا الختم بأكثر من مرحلة منها مرحلة تقليد ثم مرحلة مزاوجة بين رموز حضارة وادي السند ورموز محلية ثم تغيير الطراز الخارجي ومن ثم مرحلة النضج، حيث يأخذ الختم هوية مستقلة ويتحرر من أي رمز أو علامة دالة على حضارة وادي السند.
نتيجة نهائية
يبدو مما سبق أن هناك تأثيراً كبيراً من حضارة وادي السند على نشأة هوية حضارة باربار، فعلى الرغم من وجود نظام أوزان وأختام خاصة بحضارة وادي الرافدين تم اقتباس أوزان حضارة وادي السند وأختامها التي طورت لتعبر عن الهوية الحضارية «لثقافة باربار». على الرغم من ذلك لا يبدو أن حضارة وادي السند سيطرت سياسياً ونقلت ثقافتها بالقوة لكن ما حدث هو تضمين ثقافتها بصورة سلمية على عكس حضارات وادي الرافدين التي, كما سنرى لاحقاً, سيطرت سياسياً وطمست هوية باربار وفرضت هويتها هي وكأنها «خاضت حرباً لتغير الهوية المحلية».

المنامة – حسين محمد حسين

 

1

» فخار باربار « آنية فخارية تنتمي إلى نوع

 

2

مقارنة بين الوجه الخلفي للأختام الدلمونية

3

آنية فخارية تنتمي إلى نوع » الأواني ذات العصابات الناتئة بشكل السلسلة « 

 

4 

التسلسل التاريخي للحقب التاريخية لجزر البحرين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

*