لاحظنا في الفصل السابق بعض ملامح ثقافة دلمون – باربار التي تميزت ببناء المنازل الطينية وصناعة الفخار والأختام المميزة، وسنناقش في هذا الفصل ما يتعلق بثقافة الطين ضمن ثقافة باربار، ونقصد هنا بثقافة الطين المعلومات والمعارف التي امتلكها سكان تلك الحقبة ومكنتهم من تصنيع الفخار وبناء المنازل الطينية, ومن خلال دراسة بقايا المنازل التي تعود لتلك الحقبة والتي سنتطرق لها بالتفصيل في فصل لاحق يتضح مدى معرفة سكان تلك الحقبة بطرق تحضير الجص والنورة وكذلك حرق الفخار في
أفران خاصة. هذه المعارف استمرت حتى عهد قريب وهناك رجال عرفوا بتخصصهم في تلك المهن وهناك عدد من المراجع التي تناولت تاريخ هذه المهن في الشرق الأوسط والذي يبدأ قبل أكثر من 6000 عام (راجع Majidzadeh 1975, Garfinkel 1987, Hansen Streily 2000). وسنتناول هنا وصفاً لتلك المهن كما وثقت عبر التاريخ وهي ذاتها الطرق التي عرفتها العامة حتى منتصف القرن السابق.
الصيران وتحضير الجصّ
الجصّ كلمة استخدمتها العرب للمادة التي تستخدم في البناء وطلي الجدران ولفظة جصّ عربية قديمة وأصل اللفظ من الأكدية (gassu) ويسمى بالفارسية كج (الجبوري 2006: مادة «جصّ»). والجصّ الذي استخدم في البحرين يحتوي على قرابة 52 في المئة كلس حي (أي أكسيد الكالسيوم) و 30 في المئة أكسيد كبريت ونسبة لا تتعدى 2 في المئة من الجير (كربونات الكالسيوم) (ماجد 1987 ص 28). ويحضر الجصّ من الطين الذي يتم حرقه, وهناك عدة مصادر لهذا الطين منه ما هو محلي يجلب من مناطق مختلفة كمنطقة اللوزي على سبيل المثال ومنه ما يستورد من قطر وهو أجودها, وفي شرق الجزيرة العربية يستخدم الطين البحري. وقد تعارفت العامة على هذه المهنة باسم حرق الصيران وهي قطع الطين مفردها صار والبعض يطلق اسم صيران على قطع جذوع النخيل المستخدمة في عملية الحرق. وتبدأ تلك العملية بجمع الطين من مصادر محددة ومعروفة وبعد ذلك تبدأ عملية تجفيف الطين في حال كان رطباً (كأن يكون من مصدر بحري مثلاً) ويتم ذلك بفرشه على الأرض حتى يجف ويتشقق ويتكسر وتكون الكسور بحجم قبضة اليد بعد ذلك تتم عملية جمعه. بعد ذلك يتم التجهيز لحرق الجص والتي قد تتم في حفر تجهز خصيصاً لذلك أو يكتفى بإحاطتها بجزم جذوع النخيل, ويبدو أن طريقة جزم جذوع النخيل الأكثر انتشاراً في البحرين وشرق الجزيرة العربية وذلك لكثرة وصفها. وفي هذه الطريقة الأخيرة يتم جمع قطع الطين على شكل أكوام هرمية الشكل بعدها تجلب قطع جذوع النخيل التي تكون بمقاس متر إلى متر ونصف المتر وتعرف قطع الجذوع باسم جزم وتتم إحاطة أكوام الطين بالجزم من كل جانب حتى تأخذ شكل المسدس. وبعد اكتمال إحاطة كل الأكوام تأتي مرحلة «حرق الصيران» حيث تضرم النار فيها وتبقى النار مشتعلة تحته لمدة تتراوح من ( 3-5 أيام)، وبعد أن تخمد النار تترك لتبرد, وبعدها تبدأ مرحلة «دق الصيران» حيث يتم ضرب تلك الكتل الطينية المحترقة بقطع خشبية ثقيلة حتى يتحول إلى مسحوق يستخدم في البناء.
أنواع الجص
هناك أنواع من الجص المتكون بطريقة الحرق بحسب نوعية الطين وطريقة الحرق ومدته وموقع قطع الطين المحترقة إذا كانت في المنطقة الداخلية «القلب» أو الجزء الخارجي. ومن أنواع الجص «الجص الأحمر» وهو مقاوم للرطوبة ويستخدم في بناء العيون وتبليط الحمامات والمجاري كما يوجد إلى جانبه جص آخر يستخرج من الصخور الهشة بعد حرقها ويسمى «الجص العربي» ويستعمل هذا الأخير لطلاء المنازل والزخرفة وطلاء السطوح والحمامات أما الحجر الذي يحضر منه فيقلع من الأراضي ذات الطين المتكلس وبذلك يحتوي على نسبة مرتفعه من الجير (كربونات الكالسيوم) التي تكسبه اللون الأبيض, ومن تلك الأنواع أيضاً الجص «الخچري» (الخكري) الذي يستخدم كالأسمنت لربط الصخور مع بعضها البعض, واللفظ العربي القديم للإسمنت هو «صاروج».
طباخ الجص
قبل أن يتم استخدام الجص في البناء يجب أن يمر بعملية تعرف بطباخ الجص وتسمى العجينة الناتجة من تلك العملية بالطبخة. وعملية طباخ الجص هي عملية خلطه مع الماء بصورة تدريجية حيث يوضع داخل إناء صغير معد للخلط فيه عرفته العامة باسم «الليان» ويضاف له الماء تدريجياً مع الاستمرار في تقليبه وتحريكه حتى لا يجف أو يتصلب ومن ثم «يموت» (كما تقول عليه العامة). ويراعى أن تحضر كميات بسيطة داخل الليان لكي تستخدم بسرعة قبل أن تجف.
تحضير النورة
النورة هي المادة المستخلصة من حرق الحجارة الكلسية (الجير)، وإطفائها بالماء حتى يتحول إلى مسحوق أبيض يستعمل في طلاء الجدران. وقد استخدمت النورة مع التراب والماء في تكوين خلطة مونة البناء التي قد يضاف إليها دبس التمر أو تراب الفرن للصق أحجار البناء. والتركيب الكيميائي للنورة يشبه الجبس من حيث نسبة الكلس الحي فهي تحتوي على قرابة 47 في المئة كلس حي لكنها تختلف في نسبة الجير الذي يوجد فيها بنسبة 26 في المئة مما يكسبها اللون الأبيض (ماجد 1987 ص 27). وقد اشتهرت النورة عند العامة في البحرين باستخدامها في عملية إزالة الشعر بعد أن تخلط مع الزرنيخ وقد اشتهرت عند العرب بهذه الصفة أيضاً فقد جاء في معجم «تاج العروس»:
«النُّورَة، بالضمّ: الهِناء، وهو من الحجر يُحرَق ويُسوَّى منه الكِلسُ ويُحلَق به شعرُ العانة. وانْتارَ الرجلُ وَتَنَوَّرَ وانْتَوَر، حكى الأوَّلَ ثعلبٌ وأنكر الثاني؛ وذكر الثلاثةَ ابنُ سِيده، إذا تَطَلَّى بها».
والبعض يعتقد أن النورة لوحدها هي التي تقوم بعمل إزالة الشعر لكن في الواقع تكون المادة الفعالة لإزالة الشعر هي الزرنيخ ومن هنا قالت العامة في أمثالها «الاسم للنورة والگص للزرنيخ» والمثل يضرب في حال نسب العمل لغير فاعله الحقيقي.
خطوات وأدوات صناعة النورة
تحضير النورة ليس بالعمل السهل فهي تبدأ بجمع الحجارة المناسبة لتحضير النورة وتحرق في فرن خاص تم اختراعه منذ آلاف السنين كما ذكرنا سابقاً وقد تعارفت عليه العامة حالياً باسم «الدوغة» وقد اشتهرت قرية عالي في صناعة النورة وكذلك الفخار أيضاً وذلك أن الدوغة تعتبر عاملاً مشتركاً بين الفخار والنورة.
بناء الدوغة
الدوغة هي الفرن الخاص لحرق الحجارة الكلسية حتى يتم تحويلها إلى المسحوق المعروف بالنورة بفعل الحرارة العالية, كما يستخدم أيضاً لتسخين الأواني الفخارية بعد تصنيعها لتصبح صلبة. و الاسم «دوغة» معروف أيضاً في شرق الجزيرة العربية والكويت ويبدو أن هذه التسمية قديمة جداً وعليه يصعب تحديد أصلها. وتبنى الدوغة على شكل بيضاوي عالي يبلغ ارتفاعه من 3 إلى 5 أمتار وتكون قاعدته عريضة ويضيق من أعلى، ويختلف حجمه وسعته من فرن إلى آخر، ويتكون هذا البناء من طابقين أي من حجرتين إحداهما فوق الأخرى وكلتاهما مطليتان من الداخل ويتم صيانة ذلك الطلاء دورياً حرصاً على عدم تشقق جدران الدوغة بفعل تأثير الحرارة العالية بداخله. ويتم بناء الدوغة في أغلب الأحيان بواسطة الطين ويتم أولاً إعداد القاعدة وذلك بحفر حفرة في الأرض ومن ثم يتم بناء الحجرة السفلى أو بيت النار في الأسفل حيث يتم عبرها تزويد الفرن بالوقود لاستمرار وضمان اشتعال النار بحرارة عالية، ومن فوق ذلك الحجرة العليا أو بيت الحرق ويتم بداخلها تتم عملية حرق الحجار الكلسية. وتكون الحجرة السفلى معزولة عن الحجرة العليا بسطح مصنوع من قطع طينية يبلغ حجم كل واحدة منها (40 X 20 X 5 سم), وهذا السطح في الواقع هو سقف للطابق الأول وأرضية للطابق الثاني، وبه ثقوب يبلغ قطر الواحد منها قرابة القدم الواحد وقد يصل إلى القدمين، وتعرف هذه الثقوب لذى صناع النورة بـ «السياسر» وواحدها «سيسر». وهذه الثقوب تسمح بتدفق ألسنة النيران من الغرفة السفلى للعليا.
رصّ الحجارة داخل الدوغة
تتم عملية رصّ الحجارة داخل الحجرة العليا للدوغة في خطوات شاقة وهي المهمة الأساسية وأولى خطوات الإعداد لحرق الحجارة الكلسية، حيث يقوم العمال الحرفيون بمهمة جلب الحجارة الكلسية من مناطق مختلفة إلى موقع الدوغة ويتم تكسيرها بأحجام مختلفة ثم ترصّ الحجارة الكلسية في الحجرة العليا من الدوغة بشكل معين وهي من أهم الخطوات وأشدها صعوبة ودقة بحيث يضمن العامل الحرفي تدفق ألسنة النيران والحرارة العالية بين الحجارة بشكل متجانس تماماً.
وتبدأ عملية الرصّ بصف الحجارة الكبيرة حول الثقوب على شكل مخروطي حتى تصل إلى حافة الفرن العليا ثم تملأ الفراغات بين هذه الأشكال المخروطية بالحجارة الصغيرة وتسمى في لغة العاملين في هذه الصناعة بـ «الحجارة الولمية» وكلمة ولمية تعني الحجارة التي ليست كبيرة وليست صغيرة في نفس الوقت. بعد أن تملأ هذه الفراغات بهذه الحجارة الولمية يكون الطابق العلوي من الفرن قد امتلأ، وعندها تغطى الحجارة الكبيرة والصغيرة بحجارة أصغر حجماً وتعرف عندهم بـ «الكنكري» وذلك لمنع تسرب الحرارة من الفرن إلى الخارج بقدر الإمكان.
وقود إشعال الدوغة
يفترض أن تكون حرارة الدوغة عالية جداً ولهذا تتطلب العملية وقوداً كافياً وغالباً ما يكون وقود الدوغة من الحطب وجذوع النخيل وغيرها من المخلفات التي تسهل عملية الاشتعال وتوفر الطاقة الحرارية. ويتم تزويد الدوغة بالوقود على فترات وتستمر عملية الحرق من 8-12 ساعة وربما أكثر اعتماداً على الظروف.
إطفاء النورة
بعد التأكد من انتهاء عملية تحول الحجارة يتم التوقف عن ضخ الوقود في الدوغة ويترك لمدة حتى يبرد ثم تبدأ بعد ذلك عملية إخراج الحجارة التي تحولت إلى كتل هشة يميل لون سطحها إلى اللون الرمادي وهي عملية في غاية الصعوبة والخطورة، ويتم وضعها في مساحة مخصصة تفرد لها وتُرش الكتل الجيرية بالماء حتى تنطفئ حرارتها ويتم تكسير الكتل الهشة لتتحول إلى مسحوق أبيض وتكوم جاهزة للتعبئة والتسويق على هيئة مسحوق أبيض.
صناعة الفخار
سبق أن ذكرنا أن صناعة الفخار تعتبر إحدى بصمات التاريخ التي لاتزال ماثلة أمامنا على الرغم مما اعتراها من تغيير وتطوير منذ نشأتها قبل آلاف السنين, يقول «بيبي» في كتابه (البحث عن دلمون) «لقد أطلق على كسر الفخار اسم أبجدية عالم الآثار… فمنذ 6000 سنة قام البشر بحرق الفخار ومنذ ذلك التاريخ وحتى الآن فإن أياً من المجتمعات في العالم لم يقم بصنع الفخار على نحو صنعه مجتمع آخر». (بيبي 1985: ص 104). كذلك هو فخار باربار الذي تحدثنا عنه سابقاً كان يحمل هوية حضارية لسكان تلك الحقبة. الهوية تتمثل في شكل الإناء المميز بالإضافة لهوية خفية هي تلك المهارة في التحضير وقد تميز سكان حقبة باربار بمزجهم الرمل مع الطين قبل أن يشكل وقد أصبحت هذه بصمة لسكان تلك الحقبة سنعود لذكرها في فصول لاحقة.
وقد بدأت صناعة الفخار في البحرين في الحقب القديمة بتشكيل الطين باليد ثم بدأت تتطور شيئاً فشيئاً فاستخدمت آلة عبارة عن عجلة تدور تحرك بالقدم وفي أثناء دوران الطين يتم تشكيله ليتخذ أشكالاً مختلفة. بعد الانتهاء من التشكيل يترك الفخار ليجف ومن ثم يوضع في «الدوغة» ليتم حرقه, وبعدها يترك ليبرد ثم ينقع في الماء.
المنامة – حسين محمد حسين
عملية إشعال الدوغة