لا يوجد تاريخ محدد لولادتي، حيث لا شهادات ميلاد، ولم تلدني أمي في المستشفى، بل على يد القابلة مدينة بنت مهدي. أما تاريخ ولادتي كما ذكرت أمي فهو مرتبط بحدث مهم هو حسب تعبيرها وقعة عبدالكريم قاسم، وتقصد بذلك ثورة 14 تموز (يوليو) 1958 في العراق، وتقول: بعد هذه الوقعة بخمسة شهور, جئت إلى هذه الحياة، أي في ديسمبر/ كانون الأول من السنة نفسها.
وأيضا لا أتذكر من طفولتي المبكرة أي شيء، خاصة السنوات الثلاث الأولى، وتبدأ الذاكرة بوضوح
منذ السنة الرابعة، وترتبط هذه الذاكرة عندي بأهم حدث في تاريخ القرية، وقع في العام 1962، وهو إقامة احتفال جماهيري بمناسبة افتتاح الكهرباء، وكان يوماً مشهوداً في تاريخ القرية، وزعت فيه المرطبات، وتليت الأشعار والكلمات، وعلقت الزينات والأنوار احتفالاً بهذا الحدث المهم، الذي غيّر حياة القرية رأساً على عقب، وكنتُ احدَ الأطفال الذين حضروا هذه المناسبة.
أما قبل هذا التاريخ فالذاكرة تكاد تكون صفراً، اللهم إلا بقايا صور غير واضحة المعالم، تتراقص بين الحلم والواقع، دون أن ترسو على أي منهما. لذلك فإن ذاكرتي الشخصية يمكن أن تصنف إلى: ما قبل حدث الكهرباء، وهي ذاكرة هباء، وما بعده، مروراً بالأحداث المتعاقبة، وصولاً إلى الوقت الراهن، وهي ممكنة الاستذكار والترتيب الزمني.
مناسبة هذا الكلام, ليس الحديث عن الذاكرة الشخصية أو ما تبقى منها، بل الحديث عن شيء آخر، عن ذاكرة من نوع مختلف، عن ذاكرة القرية، أعني قرية باربار، عن شيء من ذاكرتها، ومفاصل هذه الذاكرة سحابة القرن العشرين.هذه القرية التي مازالت تحمل اسمها السومري منذ عهد حضارة دلمون منذ 2500 عام قبل الميلاد حتى الآن.
الذاكرة الشخصية، شيء فردي، أما ذاكرة القرية فهي شيء آخر ومختلف تماماً. فبالنسبة إلى ذاكرة القرية فإن الأمر يتعلق بالتاريخ والوعي الجمعيين، ذلك أن ذاكرة ما قبل افتتاح الكهرباء على صعيد القرية وإنْ كانت غائمة، إلا أنها ممتدة في عمق الزمن، كما أنها معروفة على الأقل من خلال الرواية الشفهية، والتوثيق الكتابي أو أي نوع من التوثيق. يضاف إلى ذلك، رواية الذاكرة الجمعية المتعاقبة، عبر الأجيال. وتلك الذاكرة التي جاءت مع الكهرباء وتلتها هي أيضاً معروفة باعتبارها أحدث زمنياً، وهي ذاكرة في كل الأحوال تخص الجماعة، وتاريخ الجماعة، دون الأشخاص، وحضورها اللاحق وإمكانيات تذكرها واستيعابها تكون أكبر بسبب جمعيتها، وتناقلها عبر الأجيال المتتالية.
لذلك فإن ما نبتغيه هنا، إنما هو التعرف على ذاكرة القرية في شقها الحديث والحداثي بصيغته الجمعية والجماعية، وليس ذاكرتي أنا أو هو.
وعلى ضوء ذلك يمكن القول إن القرية لم تبدأ حداثتها بحدث افتتاح الكهرباء – على أهمية ذلك – فقد كانت مظاهر وأسباب الحداثة والتحديث أسبق في دخولها إلى عوالم القرية من الكهرباء، بعقود من الزمن.
نعم، لقد دَبّ التغيير بمعناه الحديث في قرية باربار منذ سنوات أسبق بكثير من دخول الكهرباء، فعلى سبيل المثال: التحق أبناء القرية بالتعليم الحديث منذ 1937 في مدرسة البديع، وهي لحظة مهمة في حركة الحداثة في القرية إذا ما اعتبرنا أن حركة التمدرس الحديثة تعني أيضاً لحظة نشوء فئة المثقفين بالمعنى الحديث في تاريخ القرية، وبدء التمايز بين المثقف الحديث (العلماني) والمثقف القديم/ الديني.
كما التحقت أول مجموعة من أبناء القرية بشركة نفط البحرين (الجبل) حوالي هذا الوقت، لتمثل بذوراً جنينية لطبقة عاملة بالمعنى الحديث في القرية، متحررة من نظام السخرة القديم في الزراعة والغوص، وكعلامة على بدء ولادة عالم جديد، وبدء اضمحلال عالم قديم، وفي الزمن نفسه، أو أسبق بقليل، استمع الأهالي إلى المذياع حوالي منتصف عشرينيات القرن الماضي، وعرفت القرية الآبار الارتوازية لأول مرة في تاريخها حوالي 1925.
وهي القرية التي تقدم بعض وجهائها بالاشتراك مع وجهاء آخرين من مناطق مختلفة من البحرين إلى المستشار البريطاني بلغريف حوالي سنة 1934 بمطالب سياسية، من قبيل إنشاء قوانين حديثة، والتمثيل في المجلس البلدي والعرفي بما يتناسب وحجم الطائفة الشيعية حينذاك، والمشاركة في مجلس التعليم، (وعي سياسي مطلبي حداثي مبكر جداً)، وكذلك هي القرية التي قاوم أهلوها المستعمر البريطاني دفاعاً عن الشيخ خلف العصفور في منتصف العشرينيات من القرن الماضي، عندما حاول الاستعمار نفيه أول مرة، ثم في المرة الثانية، حيث كانت القرية إحدى مناطق سكناه، ونشاطه الديني/ السياسي.
وفي السياق نفسه، طالما أن الأمر يتعلق بشخصية دينية مهمة جداً بوزن الشيخ خلف العصفور في ارتباطه بالقرية وتحولاتها المجتمعية والثقافية، يمكن القول إن التحديث شمل الجوانب الدينية كذلك، وقد تجلى ذلك في التحول التدريجي لأهالي القرية، من التيار الإخباري إلى التيار الأصولي في الفقه الجعفري، وما يعنيه ذلك التحول في الرؤية والرؤيا لدى الأهالي من أهمية تاريخية، وخاصة ابتداءً من سبعينيات القرن الماضي، وهو التحول الذي بلغ ذروته مع الثورة الإيرانية، وتأثيرات السيد محمد حسين فضل الله الفقهية والفكرية/ الثقافية بوجه عام، وفي أوساط الشباب بوجه خاص، وطروحاته وفتاواه المتقدمة بالقياس لكثير من رجال الدين.
أما فيما يتعلق بالفكر الحداثي، فيمكن التأكيد على أن التفكير التنويري عموماً والاشتراكي خصوصاً بصيغته العلمانية في وجهها الماركسي، قد وجد في هذه القرية تربة صالحة لنموه أبكر من التحولات الدينية، ثقافة وممارسة، منذ اللحظات الأولى التي برز فيها هذا الفكر على صعيد البحرين، ابتداءً من منتصف الخمسينيات من القرن الماضي.
وارتباطاً بهذا الفكر شهدت باربار أول احتفال سري/ علني بيوم العمال العالمي في إحدى مزارعها، وقد جاء العمال من مختلف مناطق البحرين للاحتفال بيومهم العتيد وبعيداً عن عيون الرقيب، وكذلك نمو بواكير العمل الحزبي والنقابي، كما كانت هذه القرية سباقة إلى الانخراط في حركة هيئة الاتحاد الوطني 1954 – 1956 وزيارة أحد قادة الهيئة (عبدعلي العليوات) للقرية يعرض عليهم مطالبها ويطلب تسمية ممثل عن القرية في اجتماعاتها، حيث لاقى ترحيباً، وتلا ذلك انضمام بعض الأهالي إلى اتحاد العمال، المنبثق عن الهيئة، وكذلك عضوية الهيئة التنفيذية العليا لهيئة الاتحاد الوطني.
وفيما يتعلق بالتفاعل والانفتاح على ثقافات الآخر، حسبنا أن نشير هنا إلى ذلك التفاعل الذي حدث بين أول بعثة دنماركية للتنقيب عن آثار باربار في العام 1953 وأهالي القرية من العاملين مع البعثة وغير العاملين، حيث كان أفراد البعثة من رجال ونساء على علاقة مع أهالي القرية في اكتشاف متبادل بين الطرفين، وقبول مشترك، كل منهما لثقافة الآخر.
والأهالي من النساء والرجال على حد سواء يتذكرون جيداً عالم الآثار والمستشرق البريطاني جيوفري بيبي الذي قال عنهم في كتابه (البحث عن دلمون) إن أهالي باربار قُدوا من الصخر، ويقصد بذلك قدرتهم العجيبة على العمل والمثابرة، حيث خبرهم في مواقع التنقيب الأثرية لأكثر من عقدين من الزمن، وكذلك تعرفهم على شخصيات آثارية أخرى مثل هلين وهلموت وبيتر غلوب وغيرهم من العاملين في البعثات المتعاقبة على معابد باربار، وغيرها كثير من المواقف والأحداث الدالة على قبول الآخر المختلف والانفتاح عليه، ونزعة التسامح النسبي.
وابتداءً بالخمسينيات شهدت القرية عملية تنظيم وتوزيع المياه، حيث تم تدشين عين ارتوازية لتلبية احتياجات القرية من المياه، من خلال حملة منظمة من قبل أهالي القرية وقياداتها المدنية لتحقيق هذا المطلب، وبعيداً عن ضغوط ملاك الأراضي والمزارع وابتزازهم للأهالي، وأطلق على هذه البئر عين البلابل. وقد تم ذلك بفضل جهود أهالي القرية ووعيهم بضرورة تنظيم توزيع المياه والرغبة في تحرير الأهالي من أصحاب المزارع والحقول. ولم يأتِ منتصف الستينيات إلا وأصبحت معظم بيوت القرية مزودة بتمديدات الماء.
وفي تيار الحداثة ذاته كانت باربار على موعد مع تأسيس أول نادٍ ثقافي رياضي في تاريخها الحديث حين قامت مجموعة من الشباب المتعلم والمتنور بتحقيق هذا الحلم في العام 1964، وذلك بعد محاولات تأسيسية سابقة لتجمعات رياضية وثقافية شبابية منذ مطلع الخمسينيات، ليدشن هذا النادي مرحلة جديدة من بواكير مؤسسات مجتمع مدني قائم على أسس حديثة يلتقي فيه الأعضاء وغير الأعضاء، وبملء إرادتهم، يناقشون فيه قضايا مجتمعهم المحلي بشكل خاص، والمجتمع البحريني بوجه عام، هذا فضلاً عن تدشين فنون حديثة لم تعهدها القرية من قبل، مثل المسرح الذي ازدهر في القرية مقروناً بالنادي، لكنه من الناحية التاريخية بدأ باستلهام معركة كربلاء واستشهاد الإمام الحسين، منذ مطلع الستينيات وحتى منتصف السبعينيات، من خلال تمثيل هذه المعركة في ليلة الثالث عشر من المحرم في مكان مخصص لذلك كمسرح مفتوح، يطلق عليه عزاء بني أسد، حيث يقوم بعض شباب القرية بأداء أدوار شخصيات واقعة كربلاء، ولكنه مسرح بكل معنى الكلمة الدقيق، على الرغم من الأسلوب الارتحالي في التمثيل.
والشيء الجدير بالإشارة هنا، وتدليلاً على روح الحداثة التي أخذت تنتشر في مفاصل القرية, أنْ أدخلَ بعض المآتم ضمن موكب العزاء فرقة موسيقية مكونة من آلات نحاسية وطبول، على امتداد النصف الأول من السبعينيات من القرن الماضي.هذا فضلاً عن الحفلات الموسيقية والغنائية التي كانت تقام في الأعراس، ويدعى لها مغنون وموسيقيون من خارج القرية، وفي بعض الأحيان يقوم بذلك بعض شباب القرية، في حال تعذر وجود فرقة غنائية أو موسيقية.
يضاف إلى ذلك تأسيس مكتبة ثقافية للعموم مرتبطة بالنادي، وتعرف الجمهور من خلالها على الصحف والمجلات السيارة وقتذاك محلياً وعربياً («الهلال» و «العربي» و «روز اليوسف» و «آخر ساعة» مثلاً)، وإقامة المعارض التشكيلية، والمشاركة فيها على مستوى البحرين، وتشكيل فرق المسابقات الثقافية، وتمثيل البحرين في أكثر من مسابقة ثقافية على مستوى دول مجلس التعاون، والاحتفاء بالمناسبات الثقافية والفنية من قبيل يوم المسرح العالمي ويوم الموسيقى العالمي، وكذلك ملازمة كثير من شباب القرية حينذاك لدور السينما ومتابعة الأفلام، أي نمو الوعي السينمائي المبكر لدى الأهالي.
باربار في قلب الحداثة (2 – 2)
إلى ذلك فإن القرية كانت على موعد آخر هو تفاعلها مع انتفاضة مارس/ آذار 1965 والتي اشترك فيها أهالي القرية بفعالية خارج القرية، وداخل القرية في مسيرات جماهيرية جالت شوارع القرية رافعة اليافطات المعادية للاستعمار, ومرددة هتافات من قبيل «يا بحرين هلي، هلي خلّ الاستعمار يولي»، وكذلك المشاركة بفعالية في الانتفاضات اللاحقة، وخاصة في أوساط الطلبة على امتداد السبعينيات من القرن الماضي، هذا فضلاً عن المشاركة الفعالة في انتخابات المجلس الوطني لسنة 1973، وترشيح إحدى شخصيات القرية نفسه لعضوية المجلس، وطرحه لبرنامج تقدمي بمعايير تلك الأيام، تحت شعار من أجل الديمقراطية الحقة ومن أجل حقوق العمال والفلاحين، ولا ننسى دور القرية في انتفاضة التسعينيات.
لذلك فإن حدث الكهرباء على أهميته، كان امتداداً لأحداث تاريخية سابقة شهدتها القرية، وكانت تمثل علامات مضيئة على طريق الحداثة والتحديث. ففي حين تعرف أهالي باربار إلى السينما في وقت مبكر وأسبق من الكهرباء، فإنهم تعرفوا إلى التلفزيون بعد افتتاح الكهرباء مباشرة، إذْ دخل التلفزيون إلى القرية لأول مرة منذ 1964م.
أما على صعيد الحداثة الاجتماعية، فقد لوحظ أن الوعي الثقافي والاجتماعي قد أصبح أكثر انفتاحاً خاصة تجاه تعليم المرأة، وهو ما تجلى في التحاق أول دفعة من بنات القرية بالمدرسة في سنة 1967م. تلا ذلك تأسيس أول مدرسة ابتدائية للبنات في العام 1969. هذا العام الذي سبقه حدث تكنولوجي مهم هو دخول التليفون لأول مرة إلى القرية في العام 1968. وما أدراك ما التليفون ومفاعيله.
ولاشك أن عملية الحداثة والتحديث في باربار لم تكن مفروشة بالورود, بل كانت هناك معوقات وصراعات تجلت على صعيد الثقافة والفكر والممارسات والمؤسسات الأخرى، وكذلك بين القديم والجديد والأكثر جِدةً.
وأكثر ما تجلى فيه ذلك الصراع، هو السيطرة على النادي وخاصة في بداية السبعينيات من القرن الماضي، حيث كان الاصطفاف واضحاً بين تيارين، التيار التقدمي وما يمثله من آفاق، والتيار المحافظ وما يمثله من انسداد للأفق وتعلق بالتقاليد والماضي.
كما تجلى ذلك الصراع أيضاً، في الاصطفاف الاجتماعي والفكري حول افتتاح مدرسة ابتدائية للبنات، حيث أيد فريق من الأهالي ذلك وبقوة واعتبر ذلك مكسباً حضارياً وتقدمياً للمرأة وبالتالي الترحيب بهذه الخطوة والدفاع عن هذا المكتسب. وفريق آخر عارض افتتاح المدرسة بحجة أن ذلك مفسدة للمرأة وللمجتمع، وقد حاول أن يقف ضد المشروع ومنع بناته من الالتحاق بالمدرسة، لكن هذه المعارضة لم تصمد مع الأيام، حيث انتصر النور على الظلام، والتحديث على التقليد.
وبذلك تكون باربار من أوائل القرى على امتداد شارع البديع التي افتتحت فيها مدرسة للبنات في وقت مبكر نسبياً، ثم تلتها مدرسة إعدادية في بداية الثمانينيات من القرن الماضي.
يشار إلى أن قرية باربار ربما تميزت بين القرى الأخرى المجاورة لها بتفتح القاعدة الاجتماعية للأفكار التقدمية والتنويرية منذ البداية، كما اتسمت بالصلابة، حيث قاومت هذه القاعدة شتى صنوف الإكراهات الرسمية وغير الرسمية، حتى أن الكثيرين من حاملي هذه الأفكار قد تعرضوا للقمع والسجن والمضايقات خلال مرحلة قانون أمن الدولة, ومع ذلك بقي وهج الأفكار التقدمية والتنويرية مشعاً وحاضراً في القرية برغم النوازل المتتالية حتى الآن.
إلى جانب تلك الإكراهات الرسمية، فإن الإكراهات الشعبية لا تقل في ضغوطها ونتائجها عن الإكراهات الرسمية, وخاصة في ظل المد الأصولي واستخدام العوام في التشهير، والتسقيط بحاملي الفكر التنويري والتقدمي، وتصوير الموقف بطريقة أيديولوجية، وكأنه صراع بين الحق والباطل، في حين أنه في الواقع ليس كذلك، بل هو صراع بين الحداثة وما تعنيه، والقدامة وما تحتويه.
وما إنْ طلّ عقد السبعينيات حتى بدأ ثلة من شباب القرية يلتحقون بالجامعات العربية والأجنبية، إلى الكويت وقطر والإمارات إلى الرياض إلى القاهرة والعراق إلى بريطانيا وباريس وألمانيا وموسكو إلى دمشق وهنغاريا إلى بلغاريا وكوبا والهند، ليعود هؤلاء الشباب إلى قريتهم محملين بالفكر والتجارب والعلم والعمل، وفي مختلف التخصصات. ويبرز من بين هؤلاء المتعلمين تعليماً عالياً، مهندسون، وأطباء، وصيادلة، وصحافيون، وكتاب، وسوسيولوجيون, واقتصاديون، ومهتمون بالفلسفة، ومعلمون، وأدباء وتشكيليون، وموسيقيون، وأساتذة جامعات، وحقوقيون، ومثقفون على قدر كبير من الأهمية على صعيد القرية، وعلى صعيد الوطن .
ويستمر التطلع في القرية إلى النظم الحديثة، في تنظيم وإدارة العمل الخيري فيتم تأسيس صندوق باربار الخيري في بداية التسعينيات من القرن الماضي، ليكمل مسيرة النادي في هذا المجال. وقد أصبح للصندوق الخيري دور مهم على صعيد القرية في مساندة ودعم العديد من أهالي القرية وتنظيم وإقامة الأنشطة الخيرية والاجتماعية وفق أسس حديثة.
ولا تقف ذاكرة الحداثة في باربار عند الأحداث الفكرية والثقافية والاجتماعية، بل تتجاوزها إلى الثقافة المعمارية المرتبطة بالبنية التحتية، ذلك إن الحداثة مسألة كلية وشاملة، مادية وروحية.
وفي هذا الشأن، أخذت مساكن وشوارع القرية في التحول من العرشان والبرستجات والأزقة (الدواعيس) الضيقة والمتربة والمتداخلة، المعبرة عن التضامن الاجتماعي ما قبل الحداثي، إلى نمط المساكن الحديثة المعبرة عن الميول الفردية والنزعة الانعزالية والاغتراب بالمعنى الحديث, وبدء تفتت نمط العائلة الكبير باتجاه الأسرة الصغيرة/ النووية، والانتقال شيئاً فشيئاً من قيم الزواج الداخلي (العائلي) إلى الزواج الخارجي (الزواج من خارج العائلة والقرابة).
التحول إلى تلك البيوت المبنية من الحجر والجص أو الاسمنت منذ أربعينيات القرن الماضي، وفي السياق نفسه أصبحت المساكن ذات أبعاد هندسية واضحة المعالم، والشوارع اتسعت وأصبحت مستقيمة ومبلطة بالإسفلت، ومنذ بداية الخمسينيات تعرف أهالي القرية على أدوات البناء الحديث كالطابوق والاسمنت المسلح، والشبابيك الحديثة المستوردة من بلاد «بره»، وطلاء المنازل، ولم تأتِ الستينيات إلا وقد انتشرت المساكن ذات الطابع الأوروبي (الحديث)، وانقرضت مساكن العرشان والبرستج وأصبحت في ذمة التاريخ، وأخذت تنمو الدكاكين والأسواق والمخابز، ومتطلبات الحياة الحديثة، وانتشار اقتصاد السوق والقيم الاستهلاكية، والترقي الشخصي، والميل المستمر في التمايز عن الجماعة، بدلاً من الاندماج فيها تعبيراً موضوعياً عن مرحلة مجتمعية جديدة. وهذه كلها مؤشرات على تحول قيمي نحو الحداثة لا تخطئه العين.
أما الآن فإن باربار، القرية الوادعة والواعدة فيما مضى، وذات الأحياء الثلاثة التي لم يعرف أسماءها الجيلُ الحالي، وهي حلة العودة وحلة الصغيرة وفريق الغربي، وفريق الساحة الذي تأسس في بداية السبعينيات، أقول إن باربار لم تعد كما كانت من الناحية الطبوغرافية، ولا من الناحية السكانية ولا من الناحية الاجتماعية، فقد كبرت إلى حد بعيد وأصبحت ستة مجمعات/ أحياء كبيرة، وتوسعت أفقياً وعمودياً في مناطق كانت فيما مضى زراعية، وأصبحت تمثل نواة مدينة صغيرة، وقد امتلأت بأضواء المدينة، وأحلامها، ومباهجها، وحيويتها، وعلاقاتها الاجتماعية المدينية المعقدة إلى حد ما.
أما فيما يتعلق بسكان القرية، فلم تعد حكراً على أهلها، بل أصبحت تضم أعداداً كبيرة ممن جاؤوا من مناطق مختلفة من البحرين، وهذا الانفتاح أعطاها مزيداً من الحيوية في كل شيء تقريباً، حيث تعدد الأفكار والمشارب والثقافات والأصول الاجتماعية والمرجعيات الثقافية والدينية والسياسية هو السمة الغالبة.
هذه بعض جوانب ذاكرة الحداثة والتحديث في القرية، وهي جوانب بطبيعة الحال لها عواقب ونتائج قد تكون مزدوجة، إيجابية وسلبية. إلا أن الإيجابية ربما تكون هي الأكثر حضوراً على صعيد الواقع وخاصة في الجوانب المادية والثقافية بوجه عام.
إلا أن ذاكرة باربار لا تقف عند هذا الحد، بل تشمل جوانب عديدة، من بينها قضية الصحة والمرض. وفيما يتعلق بالصحة والمرض المرتبطين بالحداثة والتحديث فيمكن القول، إن الحداثة ساهمت مساهمة كبيرة في القضاء على العديد من الأمراض المزمنة والمتوطنة في القرية، من قبيل الجدري والطاعون والملاريا والرمد والقرع بأنواعه والسل والأمراض الجلدية وسوء التغذية والقمل, كما ساهمت في تحسين رعاية الطفولة وارتفاع مدى الحياة، وانخفاض وفيات الأطفال، والاهتمام بالأمومة وتنظيم النسل، ورعاية الشيخوخة، والاهتمام بالصحة الفردية، والعامة وتنظيم النسل وتربية الأبناء وإعدادهم للمستقبل، وامتداد فترة الطفولة، بالارتباط بفترة التمدرس.
وبالمقابل فإن الحداثة قد جلبت أمراضاً لم تكن معروفة في القرية، من قبيل الأمراض النفسية بأنواعها، كالاكتئاب، والقلق, والاضطرابات النفسية، والعقلية والشعور بالعزلة، والفُصام (الشزوفرانيا)، والمخدرات, والتوترات على مستوى الفرد وعلى صعيد المجتمع، وأيضاً العُصاب الفردي والجماعي، ناهيك عن ظهور أمراض اجتماعية لم تكن معهودة من قبل، مثل انتشار ظاهرة الطلاق، والتفكك الأسري، والبرود العاطفي، والسرقة، والتشرد، وظاهرة أطفال الشوارع، والفراغ الروحي، واللهاث وراء الثراء بأي ثمن، واغتراب الطفولة، واستشراء الانتهازية والوصولية، والكذب والتكاذب، وأوهام الحضارة، وأمراض الحضارة كذلك.
لكن مع ذلك تبقى باربار أرضاً مفتوحة على الحداثة والتحديث, قرية مقاومة بمفكريها ومثقفيها وأهاليها لكل ما يعيق التقدم والمستقبل وأحلام الأجيال، كما أنها تتسم بشيء من التقبل والتسامح فيما بين التيارات والآراء والأفكار المتباينة، وحتى المتناقضة، وهذه كلها من خصائص الحداثة والتحديث المبكر نسبياً، ومن نتاجهما.
إنها باربار، القرية التي انصهرت فيها الحضارات السومرية والدلمونية واليونانية والعربية الإسلامية والحديثة والمعاصرة من مختلف جهات الأرض، لتجعل من هذه القرية توليفة خاصة أشبه بالسيمفونية التي تعني أشياء كثيرة، وشيئاً واحداً في الوقت نفسه، إنها باربار التي تحتفي بالفكر والمفكرين والثقافة والمثقفين، تحتفل بالشعر والشعراء والفن والفنانين، وتستقبل كل ما هو جديد وجميل، وتتطلع دائماً إلى المستقبل المنشود الذي لم يأتِ بعد.
وفي الختام هذه ليست سوى لمحة سريعة من خلال رصد بعض مفاصل حركة الحداثة والتحديث في قرية باربار، إحدى قرى البحرين القديمة والحديثة في الوقت نفسه. القرية التي تحتضن أقدم معلم أثري (معابد باربار) جنباً إلى جنب، مع أحدث معالم الحداثة والتحديث في البحرين، وربما في العالم.
يوسف مكي: كاتب وباحث اجتماعي
عبدالكريم قاسم في زيارة إلى المرجع السيد محسن الحكيم
معابد باربار الاثرية
معابد باربار التاريخية