يقصد بالثقافة الهلنستية تلك الثقافة الناتجة من تقارب الثقافة اليونانية والثقافة الفارسية وقد تأثرت جزر البحرين بتلك الثقافة، لكن لم تكن ثقافة البحرين هلنستية بحتة ولكن متأثرة بها بدرجات متباينة حسب الفترة الزمنية. هناك عدد كبير من المراجع التي تناولت جزءاً من تفاصيل هذه الحقبة في البحرين وقد تنوعت تلك المراجع ما بين دراسات تحليلية مقارنة تدرس الحقبة الهلنستية ككل وما بين دراسات تخصصية عن مجموعة مقابر معينة كقبور جنوسان أو قبور الحجر أو كرانة أو الشاخورة أو غيرها من المقابر التي تعود للحقبة الهلنستية, وهناك دراسات تخصصت فقط في عرض مقتنيات المقابر الهلنستية, وقد خصص دانيال بوتس الجزء الثاني من كتابه «الخليج العربي في العصور القديمة» لدراسة الحقبة الهلنستية
في البحرين وشرق الجزيرة العربية بما في ذلك دولة الإمارات العربية وسلطنة عمان وقد جمع بوتس في هذا الكتاب كماً ضخماً من المعلومات والمراجع التي كانت متناثرة مما يسهل على الباحث الوصول للمعلومة. في هذه الدراسة عن الحقبة الهلنستية في البحرين لن نقوم بتكرار ما جاء في تلك الكتب وإنما سنقوم بالتركيز على ثلاثة محاور رئيسية, وهي محاور تعتبر خلاصة تلك الكتب والدراسات التي تناولت هذه الحقبة ولكنها ليست واضحة في تلك الدراسات فلم تأتِ بصورة منظمة أو مجتمعة مع بعض وبذلك تكون هذه الدراسة نظرة مغايرة شيئاً ما عن باقي الدراسات لكنها في نفس الوقت تعتمد على نفس المعلومات التي تم تناولها في الدراسات السابقة.
محاور الدراسة الأساسية
هناك ثلاثة محاور رئيسية تدور حولها دراسات الحقبة الهلنستية في البحرين وشرق الجزيرة العربية يمكن إجمالها في النقاط التالية:
1 – السلطات السياسية التي سيطرت على المنطقة وما نتج عن تلك السيطرة من تأثيرات في الثقافة المحلية والذي يمكن التكهن به عن طريق دراسة اللقى الأثرية التي عثر عليها في مقابر الحقبة الهلنستية أو مواقع الاستيطان التي تعود لتلك الحقبة. وقد تناولنا تلك القوى السياسية باختصار في فصل سابق وسنتناولها بشيء من التفصيل في الفصول القادمة.
2 – الثقافة المحلية وامتدادها, فعلى الرغم من وجود تأثيرات لثقافات خارجية إلا أنه كانت هناك هوية محلية بدأت تتكون في الحقبة الهلنستية وأخذت في النضج مع الزمن والتقارب من الهويات المحلية الأخرى المتكونة في المناطق المجاورة بحيث أصبحت هناك هوية متجانسة شيئاً ما في جزر البحرين وشرق الجزيرة العربية وجزيرة فيلكا وأقل تجانساً مع شبه جزيرة عمان.
3 – الهويات المتصارعة, حيث إنه مع نهاية القرن الثالث الميلادي تعددت الهويات فهناك عروق مختلفة (اليونانيون والفرس والآراميين والعرب) وتعددت الأديان (الوثنية والزرادشتية واليهودية والمسيحية) وبدأ صراع الهويات المتداخل مع الدين فأصبحت هناك علاقة بين رجال الدين والسلطات السياسية وتسخير الدين لخدمة السلطات السياسية, وهذا الصراع سنتناوله بشيء من التفصيل في فصول قادمة.
السيطرة اليونانية على البحرين
ليس من المرجح أن الإسكندر استطاع السيطرة على منطقة الخليج العربي إلا أن المرجح أن الإسكندر أعد برنامجاً لغزو الخليج العربي والسيطرة عليه إلا أن برنامجه لم يستكمل حيث وافته المنية. وقد تناول دانيال بوتس هذا البرنامج بصورة مفصلة ونذكره هنا بصورة مقتضبة.
برنامج الإسكندر للسيطرة على الخليج العربي
بعد أن انتهى الإسكندر من فتوحاته الواسعة في آسيا فكر في الاستيلاء على بلاد العرب لأسباب استراتيجية واقتصادية متعددة. كان الإسكندر قد سيطر على منافذ البحر الأحمر والخليج العربي باستيلائه على مصر والعراق ومنطقة الهلال الخصيب بأسرها ولم يبقَ أمامه لاستكمال امبراطوريته في الشرق الأدنى سوى السيطرة على شبه الجزيرة العربية وبخاصة شواطئها الشرقية والجنوبية. وقد حفظ لنا تلك الأحداث أريان Arrian في كتابه Anabasis (170 ميلادية). فيخبرنا أريان أن الإسكندر أمضى ردحاً من آخر عام في عمره يجهز خططه لجزيرة العرب التي يمكن تلخيصها فيما يلي:
1 – إعداد أسطول لجمع الأخبار عن جزيرة العرب
2 – تسيير ثلاث بعثات استخبارية بحرية
3 – تأسيس مستوطنات على الساحل العربي.
أسطول الإسكندر
وصف سترابو أسطول الإسكندر بشيء من التفصيل:
«أما الإسكندر… فقد عزم على امتلاك تلك البلاد (المقصود جزيرة العرب) فأعد الأساطيل وقواعد العمليات. وبنى بعض سفنه في فينيقيا وقبرص… وبنى مراكب أخرى في بابل بخشب السرو النامي في الغياض والحدائق» (بوتس 2003: ج 2, ص 658).
بعثات الإسكندر الاستكشافية
فيما يخص الاستكشافات التي طلب الإسكندر إنجازها فيمكن تصنيفها في ثلاث فئات, تشمل الفئة الأولى منها رحلة نيارخوس العام 325 ق. م. وقد كتبت عنها ثلاثة تقارير والتي حررها كل من نيارخوس وأورثاغوراس وأنيزيكريتس. ولم تصلنا أي من تلك التقارير وإنما نعلم عنها من خلال أعمال الكتاب المتأخرين التي وصلتنا. أما الفئة الثانية فهي البعثات الاستطلاعية التي بعثها الإسكندر في ربيع العام323 وحصل الإسكندر من خلالها على أخبار جمعها مباشرة أمراء بحره أرخياس Archias، وأنذروسثينس Androsthenes، وهييرون Heeron، وهم قواد حملاته الثلاث للدوران حول جزيرة العرب. وأخيرا لدينا رحلة أناكسيكراتس Anaxicrates في العام 323 قبل الميلاد أيضاً والذي أرسله الإسكندر من هيروبولس في مصر ليدور في البحر حول جزيرة العرب. وتمثل التقارير المكتوبة عن تلك الرحلات أساس معظم المعرفة الجغرافية الخاصة بالخليج العربي وشبه جزيرة العرب (بوتس 2003: ج 2, ص 659 – 661).
تأسيس المستوطنات
من ضمن المستوطنات التي أسسها الإسكندر مستوطنة عرفت باسم «الإسكندرية» والتي يعتقد أنها أسست في أقصى جنوب العراق على ساحل الخليج العربي, ويعتقد أيضاً أن الأسباب التي أدت لبناء هذه المستوطنة تتمثل في: إقامة قاعدة عسكرية ضد الغارات العربية المحتملة, وأن تكون بندراً جديداً يستخدم كمركز هجوم لأسطوله الذي أعده, وأن تكون مركزاً تجارياً جديداً في رأس الخليج (بوتس 2003: ج 2, ص 661 – 664).
السيطرة السلوقية اليونانية
توفي الإسكندر سنة 323 ق.م في بابل بعد رجوعه من الهند وقد تنازع قواده على تركته بعد وفاته, وبدأت تضعف السيطرة المقدونية على بابل وبدأ السلوقيون يحكمون سيطرتهم على بابل وإيكاروس (جزيرة فيلكا), وهكذا تأسست الإمبراطورية السلوقية والتي اعتلى عرشها مؤسسها سلوقس الأول (311 ق.م – 281 ق.م). ولا يعرف الكثير عن سياسة السلوقيين في الخليج العربي إلا أن الأرجح كانت سياستهم استمراراً للسياسة التي بدأها الإسكندر. وتتحدث معظم الأخبار عن سفن السلوقيين العسكرية وعن نشاطها البحري في حوض البحر المتوسط. ويبدو أنهم احتفظوا بأسطول في الخليج العربي لأغراض عسكرية فعند بليني يوجد مقطع موجز يوحي بوجود حضور بحري في الشرق في عهدي سلوقس الأول ونجله أنتيوكس (أنطيوكس) الأول Antiochus I (281 ق.م – 261 ق.م).
قد أحدث السلوقيون تقسيماً إدارياً اختلف عن ذاك التقسيم الذي ورثه الإسكندر المقدوني عن الأخمينيين الفرس, فقد فصل السلوقيون بلاد بابل في أقصى الجنوب وحولوها فيما يبدو إلى منطقة إدارية جديدة عرفت باسم إقليم أو مرزبانة البحر الإريثري (أي الخليج العربي) (Salles 1999A). وقد كان الآشوريون والبابليون يطلقون عليها اسم أرض البحر.
السيطرة على شرق الجزيرة العربية
عندما تبوأ عرش الملك أنتيوكس الثالث (223 ق.م – 187 ق.م) نشبت المعارك في بابل حوله, من تلك ثورة مولون مرزبان (يقال أيضا ساتراب أو استراتيجي) ميدية الفارسية والتي بدأت سنة 222 ق.م والذي تمكن في العام 221 ق.م من القضاء على بثيدياس Pythidias مرزبان مرزبانة البحر الإريثري. إلا أن أنطيوكس الثالث تمكن من القضاء على ثورة مولون في العام 220 ق. م. وقام بتعيين تيكون Tychon أحد ضباطه الموثوقين وبطل حملاته ليتسلم القيادة في مرزبانة البحر الإريثري. وهناك جدل حول الدور الحقيقي لتيكون والمطلوب منه أداؤه إلا أن المرجح أن يقوم تيكون ببناء أسطول يراقب به الخليج العربي عامة ولكي يسيطر على وجه التخصيص على التجارة البحرية مع الهند. فقد كان الأسطول السلوقي حتماً موجوداً في الخليج قرابة عام 205 ق.م. فعندما انتهى أنتيوكس الثالث من حملة في الهند ذهب الملك بنفسه إلى الجرهاء (أو الجرعاء) في شرق شبه الجزيرة العربية لإخضاع أهلها ثم توقف بعدها في تايلوس (جزر البحرين) (بوتس 2003: ج 2, ص 668).
ويبدو أن السلوقيين قد سعوا لإقامة مركز بحري جديد عند رأس الخليج العربي فقد قام أنتيوكس الرابع (175 ق.م – 164 ق.م) سنة 165 ق.م أو 164 ق.م بإعادة تأسيس مدينة الإسكندرية التي بناها الإسكندر والتي أصيبت بأضرار بليغة من جراء فيضان. وقد أطلق عليها اسم أنطيوك أو أنطاكيا Antioch أو إنطاكية- كراكس Antioch Charax التي أصبحت عاصمة إقليم البحر الإريثري. ويحتمل أن تكون مهمة هذا المركز تقديم خدمات لعاصمة امبراطوريتهم ولسفن التجارة البعيدة المدى واستخدامه قاعدة للأسطول السلوقي (بوتس 2003: ج 2, ص 675).
وفي الفترة السلوقية يشوب تاريخ تايلوس الغموض فإننا لا نعلم إذا قام السلوقيون باحتلالها عندما كانوا يقيمون في إيكاروس (فيلكا). ولا نعلم إذا كانوا استخدموا تايلوس كميناء للزيارة أو كميناء يفدون إليه طلباً للأمان عندما يشعرون بالخطر بالنسبة للأسطول الذي أبقوه في الخليج والذي توجد بعض البيانات التي تؤكد ذلك. فبعض سكان الجزيرة كانوا يقرأون اللغة اليونانية حيث تم العثور على عدة وثائق بهذه اللغة. وهناك عدة لقى وجدت توحي بأن جزر البحرين شاركت بطريقة أو بأخرى في العالم السلوقي (Salles and Lombard 1999).
التأثيرات اليونانية في البحرين
تم العثور على ثلاثة أنواع من الفخار في البحرين: الفخار الشائع المحلي والفخار العربي الانسيابي والفخار المصقول (Salles and Lombard 1999). الأشكال المصنعة من الفخار المصقول والتي صنع غالبيتها في البحرين وتحمل تأثيرات يونانية, وقد تساءل جان فرانسواز سال فيما إذا كانت هذه التأثيرات ناتجة عن شعوب يونانية مستقرة في البحرين أو ناتج عن نقل ثقافي لتقنية صناعة الفخار المصقول, إلا أن المعطيات المتوافرة لا تعطي إجابات دقيقة (Salles 1999B), ويرى أندرسين أن تقليد أشكال فخارية معينة لم تكن موجودة سابقاً كأواني شرب النبيذ من مثل قنينة لاجينوي التي أصبحت جزءاً من أواني المائدة وكذلك الأواني الجنائزية التي توضع في القبور مع الموتى, هذا التقليد ربما يكون ناتجاً عن تغير ثقافي لدى شعب تايلوس ناتجاً عن احتكاكهم بجنود يونانيين استقروا في الجزيرة (Andersen 2002). ويبدو أن هذا الترجيح قريب للصحة بعد أن عثر على نقوشات يونانية تدل على وجود جماعة تتحدث اليونانية في تايلوس وكذلك العثور على دلائل تؤكد وجود معبد يوناني شيد في جزيرة البحرين في الحقبة الهلنستية (Gatier et al 2002) وهو ما سنتطرق له في الفصل القادم.
وحتى مع وجود هذه التأثيرات اليونانية فإنه من غير المرجح أن يكون الإسكندر وخلفاؤه السلوقيون قد فتحوا شبه الجزيرة العربية مثلما افتتحوا آسيا الغربية, وعلى الرغم من تصميم الإسكندر على تجهيز حملة ضد جزيرة العرب وعلى استعمار ساحلها فإن مخططاته الأخيرة الشهيرة لم تتعد مرحلة الاستطلاع ولا يجوز لنا أن نعتقد أن غزو أنتيوكس الثالث أو حملة أنتيوكس الرابع قد وسعتا انتشار النفوذ السلوقي أو الهلنستي على الوجه الأعم بين شعوب شرق الجزيرة العربية وكياناتها السياسية, وتؤكد المعلومات المتوافرة والمتناثرة أن شرق الجزيرة العربية واقع خارج حدود الإمبراطورية السلوقية رغم وجود الصلات بينها وبين العالم اليوناني والسلوقي, وبالتالي لم تتأثر كثيراً بالهلنستية مثل المناطق الأبعد منها باتجاه الشمال والغرب, وكانت حضارتها المادية والفكرية عربية بالدرجة الأولى مع أنها كانت منفتحة على التأثير الخارجي (بوتس 2003: ج 2, ص 683 – 684). وهذا ما سنتناوله بالتفصيل في الفصل القادم.
المنامة – حسين محمد حسين
من أنواع الفخار العربي الذي عثر عليه في المقابر الهلنستية في البحرين
قنينة من نوع لاجينوي عثر عليها في مقابر سار الهلنسيتية