كتب الباحث الاستاذ حسين محمد حسين الجمري:
يولد كل شخص ويبدأ بتعلم لغة أو لهجة آبائه ويرتبط بها وتصبح جزءاً من هويته، فإذا ما تعرضت هذه اللغة أو اللهجة إلى ضغوط خارجية تحاول تغييرها يصبح الارتباط بين هذه اللغة والهوية أكثر قوة، ففي أوروبا عندما كانت لغة الدولة تفرض فرضاً على شعوب أوروبا (وهي اللغة اللاتينية أي لغة الدين) لم تتخل تلك الشعوب عن لغتها المتوارثة والتي عرفت باسم «اللغة العامية» عندهم والتي كانت تعتبر اللغة الأصلية، وكانت تلك الشعوب الأوروبية تعلم صغارها هذه اللغة القومية، يقول الأديب الإيطالي دانتي (1265م – 1321م) في تعريف «اللغة العامية»: «إننا ندعو الكلام العامي ذاك الذي يتعلمه الأطفال ممن حولهم عندما يبدأون لأول مرة في التمييز
بين الكلمات، أو باختصار شديد، نقول إن الكلام العامي ذاك الذي نكتسبه من دون أي قاعدة، من خلال تقليدنا لمربيتنا» (جوزيف 2007، ص 140).
ويعتبر دانتي أن كل لغة عامية عند أي شعب هي اللغة الأصل وأن اللغة التي تفرض عليهم هي لغة مصطنعة، فيقول: «وتعتبر اللغة العامية هي الأنبل؛ لأنها اللغة الأولى التي استخدمت من قبل الجنس البشري، ولأن العالم كله يستخدمها حتى ولو كانت مقسمة إلى كلمات وتعابير مختلفة، ولأنها أيضاً طبيعية بالنسبة إلينا، في حين تعد الأخرى مصطنعة ومتكلفة» (جوزيف 2007، ص 141).
لم تكن الصورة في الجزيرة العربية تختلف كثيراً عن ذلك، فعندما حدث التجاور بين القبائل العربية والشعوب الحضرية اندمج عدد من القبائل مع الشعوب العربية وعملت بمهن الحضارة وأثرت وتأثرت بلهجات ولغات تلك الشعوب الحضرية، بينما رفضت قبائل عربية أخرى الاندماج مع الشعوب الحضرية محافظة على هويتها ولهجتها.
اللهجات الحضرية في قبال البدوية
نقصد باللهجات الحضرية تلك اللهجات العربية التي تتحدث بها جماعات عربية تكونت من جراء انصهار قبائل عربية مع شعوب لها امتداد حضاري وذلك في حقبة ما قبل الإسلام، وقد تكونت هذه الجماعات على طول الساحل الشرقي للجزيرة العربية؛ أي من جنوب العراق وامتداداً على طول الساحل الشرقي للجزيرة العربي شاملاً جزر البحرين ومروراً بقطر ودولة الإمارات العربية المتحدة وصولاً إلى سواحل عمان (انظر الخريطة) (Holes 2006). بقيت تلك الشعوب تتحدث بلهجاتها العربية الحضرية التي تتشابه في خصائصها، وبقرابة العام 1000م بدأت الهجرات البرية للعديد من القبائل تتوافد على هذه المناطق الحضرية قادمة من وسط الجزيرة العربية، وعلى مدى الألف عام الأخيرة تكونت مجموعتان من اللهجات في هذه الدول، اللهجات الحضرية واللهجات البدوية (Holes 2006).
في بعض المناطق، مثل عمان، حدث اختلاط بين الجماعات ذات الأصل الحضري والجماعات ذات الأصل القبلي ونشأ عن ذلك أنه في بعض المناطق توجد خواص لغوية مشتركة بين تلك الجماعات وأن هذه الخواص تتوزع في المنطقة توزيعاً جغرافياً وليس اجتماعياً (Holes 1989 (ترجمة الأغبرية 2009)). أما في البحرين فحدث أن اعتنق سكان البحرين القدماء المذهب الشيعي الجعفري، وبذلك ارتبطت اللهجة العربية الحضرية التي يتحدث بها بهوية عرقية دينية لا يمكن لها أن تندمج إلا مع هوية دينية تطابقها، وقد تطورت هذه اللهجة الحضرية في ضمن هذه الجماعة العرقية الدينية مكونة لهجة خاصة بهم عرفت لاحقاً باللهجة البحرانية.
اللهجة البحرانية لهجة حضرية
يرجح الباحثون في علم اللغة أن اللهجة البحرانية هي إحدى تلك اللهجات الحضرية التي تكونت قبل الإسلام، وبذلك تكون أولى اللهجات العربية التي تكونت على أرض البحرين. وبما أن اللهجة البحرانية لهجة حضرية فهي بالتأكيد تتشابه في خصائصها مع اللهجات الحضرية الأخرى التي تكونت على الساحل الشرقي للجزيرة العربية وفي الإمارات وعمان وحتى اليمن، وقد أثبت البرفسور Holes وجود جماعات حضرية في الجزيرة العربية معزولة جغرافياً عن البحارنة لكنها تتشابه في ما بينها في الخصائصها الخاصة باللهجة التي يتحدثون بها، ومنها يستنتج Holes أن المؤثرات التي أدت إلى تكوين تلك اللهجات واحدة وأنها لهجات حضرية تكونت قبل الإسلام ثم تطورت لاحقاً (Holes 2006، Holes 2011). كذلك عبدالعزيز مطر في كتابه «ظواهر نادرة في لهجات الخليج العربي» يؤكد أن اللهجة البحرانية تكونت قبل أن يعتنق البحارنة المذهب الشيعي بل قبل الإسلام (مطر 1976، ص 31 وص 75)، ويؤكد مطر أن خصائص اللهجة البحرانية تشترك مع خصائص اللهجات الحضرية الأخرى المتأثرة بالآرامية، ومن الأدلة التي يسوقها مطر لإثبات ذلك هو غياب الأصوات الأسنانية من اللهجة البحرانية (ث، ذ، ظ) فهذه الأصوات «غير موجودة في الآرامية والسريانية.. وقد خلت منها جميع اللهجات المتأثرة بالآرامية والسريانية، كلهجات: سورية، لبنان، فلسطين، ومصر، ما عدا البدو في الصحراء الشرقية، والصحراء الغربية» (مطر 1976، ص 75).
ويضيف بعد ذلك دليلاً آخر؛ إذ يقول: «ويؤيد هذا الأثر الآرامي في الضميرين (إنتين وإنتون) أن هذين الضميرين موجودان في لهجات اليمن، والمعروف أن المعينية والسبئية من اللغات السامية الجنوبية، وقد تأثرت بالآرامية … ففي منطقة الحديدة في الوقت الحاضر يستعملان الضميران كما يستعملان لدى شيعة البحرين … ومما هو جدير بالذكر أن أهل الحديدة سنيون وليسوا شيعة؛ ما يؤيد ما رددناه في هذا البحث من عدم ارتباط اللهجة بالمذهب الشيعي أو المذهب السني» (مطر 1976، ص 75).
نستنتج من ذلك أن اللهجة البحرانية لهجة حضرية تكونت قبل الإسلام، واستمرت الجماعات الحضرية تعيش في البحرين قروناً بعد الإسلام وبعد أن اعتنقت المذهب الشيعي الجعفري، وقد استمرت البحرين خالية تقريباً من الجماعات القبيلة التي كانت تزورها لكن لا تستقر بها. ومنذ نهاية القرن السابع عشر الميلادي تقريباً بدأت جماعات من أصول قبلية تستوطن في البحرين وبدأت جماعة جديدة تتكون في البحرين، وهذه الجماعة تدين بالمذهب الإسلامي السني وتتحدث بلهجة تصنف ضمن اللهجات ذات الأصل القبلي التي تعرف باسم لهجة الخليج العربي، وقد أطلق مسمى لهجة «العرب» للهجة التي تطورت لاحقاً لهذه الجماعات ذات الأصل القبلي التي استوطنت البحرين.
البداوة ومهن العيب
لم يحدث اندماج بين البحارنة والعرب، وحتى المهن التي كانت تمتهنها كل جماعة تختلف عن الأخرى، فقد كان هناك تقسيم عرقي للأعمال المختلفة في مجتمع البحرين القديم بين العرب والبحارنة؛ إذ إن جماعة العرب لا تعمل في الزراعة وصيد الأسماك والحلاقة وبيع الخضار والنسيج والفخار وغيرها من المهن الحضرية؛ إذ تصفها هذه الجماعة (بالعيب) (Serjent 1968)، ويروي Serjent عن تجربته في البحرين العام 1963م حيث يقول إنه مازال يعتبر «العرب» بيع الدجاج والبيض عيباً حتى وإن كان أحدهم فقيراً، إلا أن العرب لا يجدون ضيراً في أكل الدجاج والبيض (Serjent 1968)؛ وعليه بقيت تلك المهن الحضرية مرتبطة بالبحارنة بصورة رئيسة، واستمر هذا التقسيم حتى نهاية الستينيات من القرن الماضي على أقل تقدير. بالمقابل هناك أعمال ارتبطت بالعرب بصورة رئيسة، وعليه كانت جماعة البحارنة تعمل بصورة مستقلة عن جماعة العرب ولم يعملا معاً إلا في المصانع التي ظهرت بعد اكتشاف النفط في مطلع الثلاثينيات من القرن الماضي، ولكن مع دخول الأيدي العاملة الأجنبية واندثار مهن مختلفة اضمحل الارتباط وتكون ارتباط جديد بين أعراق الأيدي العاملة الأجنبية والأعمال المختلفة في البحرين.
خصائص اللهجات العربية الحضرية
تتشابه خصائص اللهجة البحرانية مع خصائص اللهجات العربية الحضرية في الجزيرة العربية، وتكاد تكون خصائص اللهجة البحرانية متطابقة مع خصائص لهجات شرق الجزيرة العربية وبالتحديد القطيفية التي ربما اعتبرت فرعاً من اللهجة البحرانية والسبب في ذلك هو التشابه في المذهب لدى تلك الجماعات، فاللهجة العرقية الدينية، كاللهجة البحرانية، تكوّن لنفسها حدوداً داخلية قد تكون أكبر من الحدود السياسية للدولة، وقد لعبت «اللغات العامية في أوروبا» دوراً كبيراً في تحديد الحدود السياسية للدول. يقول الفيلسوف الألماني فيخته (العام 1806م): «إن الحدود الطبيعية الأولى والأصلية للدول بشكل دقيق هي – من دون شك – حدودها الداخلية. وجمع أولئك الذين يتكلمون اللغة نفسها عدداً كبيراً من الروابط الخفية نسجتها الطبيعة نفسها منذ عهد بعيد، قبل أن يبدأ أي فن إنساني». (جوزيف 2007، ص 153).
وقبل أن نتناول خصائص اللهجات الحضرية سنتناول التسلسل التاريخي لتكون هذه اللهجات بالتفصيل في الفصول المقبلة.
صحيفة الوسط البحرينية – المنامة – حسين محمد حسين- العدد 3489 – الثلثاء 27 مارس 2012م الموافق 05 جمادى الأولى 1433هـ
مقال سلس ورائع .. شكراًللكاتب
مقال متناسق و رائع من ناحية التوصيف و التحليل و الافكار و الترابط بينها,
تم تحليل الموضوع بشكل ممتاز ,, لطالما كانت هناك تسؤلات عن هذا الامر, قد بينت لنا العديد من الامور ,,,
اشكرك استاذنا العزيز ,, جهود جباره واقبل اياديك لما تقوم به من خدمة لهذا المجتمع. بتوفيق