المقاومة الوطنية للنفوذ البريطاني في البحرين (من معاهدة 1892 حتى الاستقلال 1971)
في مارس 1892 وقع الشيخ عيسى بن علي آل خليفة حاكم البحرين (1869-1832) اتفاقية جديدة مع السلطات البريطانية، أدخلت بلاده في نطاق "المعاهدات المانعة"، حين نصت على ألا يعقد الشيخ اتفاقيات أو يجري اتصالات أو مخابرات مع أي دولة سوى بريطانيا وألا يسمح بإقامة أي وكيل أو مندوب لأي دولة في البحرين دون موافقة الحكومة البريطانية، كما نصت على أن لا يتنازل عن أي جزء من أراضي بلاده، بأي شكل من أشكال التنازل، دون إذن من
الحكومة البريطانية([1]). ويعني ذلك أن بريطانيا ستتولى إدارة شؤون وعلاقات البحرين الخارجية، بل أكثر من هذا انتزعت قدراً من سلطات وصلاحيات الشيخ في المسائل الداخلية، كما أن السلطات البريطانية لم تدخر وسعاً في إحكام سيطرتها على البحرين من خلال اتخاذ المزيد من الإجراءات والتدابير المختلفة فيما بعد. وعندما احتجت الدولة العثمانية وادعت أن أهالي البحرين من رعايا السلطان العثماني وأن البحرين تقع في نطاق الأراضي العثمانية، وعارضت تولي بريطانيا النظر في قضايا أهالي البحرين الذين يتعرضون لعمليات قرصنة، ردت الحكومة البريطانية بشكل صريح بأن البحرين واقعة تحت الحماية البريطانية.
وفي عام 1900 تخلى الإنجليز عن وظيفة الوكيل المحلي، الذي كان يمثلهم في البحرين وعينوا وكيلاً أو معتمداً سياسياً بريطانياً Political Agent للقيام بهذه المهمة. وبدا واضحاً مع بدايات القرن العشرين أن السلطات البريطانية تمارس ضغوطاً واضحة على الشيخ عيسى ليقبل ما اعتبرته إصلاحاً لموضوعين هما: تنظيم العوائد الجمركية، والتشريع القضائي المتعلق بالأجانب، وكان الهدف من ذلك زيادة التحكم البريطاني في شؤون البحرين، فتدخلت السلطات البريطانية في تعديل القواعد المعمول بها في تنظيم العوائد الجمركية وأساليب تحصيلها عن طريق ملتزمين أثاروا سخط الأهالي نتيجة استغلالهم. أما بالنسبة للقضاء المتعلق بالأجانب فقد تولاه المعتمد السياسي البريطاني في البحرين "بريدو" Prideaux منذ عام 1904 حتى لا تتخذ القضايا المتعلقة بالأجانب ذريعة لتهديد الحماية البريطانية على البحرين واتهامها بالعجز، وقد أثار ذلك الشعب البحريني الذي رأى الإنجليز يسلبون الشيخ سلطاته وسيادته القضائية على الأجانب([2]).
وفي عام 1906 تعهد الشيخ عيسى بعدم السماح لأية دولة أجنبية بتأسيس مكاتب للبريد والبرق في البحرين، ما عدا بريطانيا، كما تعهد عام 1911 بمنحها حق استغلال ثروات البحرين من اللؤلؤ والإسفنج والنفط، وبذلك قيدت بريطانيا الحاكم بتعهدات شملت قيوداً واضحة أحكمت بها قبضتها على البلاد بشكل واضح خلال الفترة التي سبقت الحرب العالمية الأولى.
وعندما تفاوضت إنجلترا مع الدولة العثمانية بشأن تصفية نفوذها وسيادتها على الخليج، وأسفرت المفاوضات عن توقيع الاتفاق الإنجليزي – العثماني المعروف عام 1913، نص الاتفاق في القسم الثالث (مادة 13) على تخلي الدولة العثمانية عن جميع ادعاءاتها في البحرين واعترافها باستقلالها، كما أعلنت بريطانيا بدورها بأنها لا تنوي ضم البحرين إلى ممتلكاتها، كما نصت على ضمان بألا يفرض الشيخ رسوماً إضافية على الرعايا العاملين في صيد اللؤلؤ([3])، وهكذا انتهت كل ادعاءات العثمانيين في البحرين، وبدا واضحاً انفراد بريطانيا بها، سواء بنصوص المعاهدات أو بالواقع الفعلي.
وعندما اندلعت الحرب العالمية الأولى عام 1914 استخدمت البحرين كقاعدة لحشد القوات البريطانية وعتادها أثناء حملتها ضد العراق، بينما كان الأهالي متعاطفين مع الدولة العثمانية باعتبارها دولة الخلافة العثمانية، فكان ثمة شعور بالاستياء العام ضد الإنجليز… وخلال فترة الحرب وقعت بريطانيا عام 1915 معاهدة القطيف المعروفة مع عبد العزيز آل سعود التي اعترفت بسلطاته كحاكم مستقل على نجد وملحقاتها ووافق فيها على عدم تدخله في شؤون الإمارات المجاورة له، والتي كانت البحرين من بينها، باعتبارها ترتبط مع بريطانيا بعلاقات تعاهدية.
ونتيجة لتزايد النفوذ البريطاني في البحرين، وازدياد تدخل المعتمدين السياسيين الإنجليز وموظفيهم في شؤون البحرين الداخلية، خاصة في الشؤون القضائية، بدأ الشعور الوطني المعادي لذلك في النمو والازدياد، وقد عبر هذا الشعور عن نفسه عندما نشبت اضطرابات عام 1919 احتجاجاً على محاولة المعتمد السياسي البريطاني تطبيق بعض القوانين المدنية والجنائية المعمول بها في الهند على البحرين، حيث اجتمع أعيان البلاد، في شكل مجلس تأسيسي، والتقوا بالشيخ عيسى بن علي آل خليفة وقدموا إليه عدة مطالب كان على رأسها وقف التدخل البريطاني في شؤون البلاد، وتخويل المجلس التأسيسي حق انتخاب القضاة ورؤساء الإدارات التنفيذية، وإبعاد غير الوطنيين عن الوظائف الرسمية، وتنظيم شرطة وطنية، فضلاً عن إعداد لائحة الإصلاح الإداري تستهدف تحقيق حياة كريمة للمواطنين.
استجاب الشيخ عيسى لهذه المطالب ووعد بتنفيذها، بينما رفض المعتمد السياسي البريطاني ذلك وسعى للحيلولة دون تنفيذها، وحاول إقناع الحاكم بأن المجلس التأسيسي المقترح سيسحب سلطاته ويسعى إلى خلعه، كما بدأت السلطات البريطانية تثير المشاعر لإثارة فتنة بين السنة والشيعة، بادعائها أن الشيعة في البحرين طلبوا تدخل إيران لحمايتهم، وازداد تفاقم الأمور بين الشيخ والمعتمد السياسي البريطاني "ديكسون Dikson" عندما أعلن الأخير أن جميع الرعايا غير البحرينيين خاضعون للحماية البريطانية، وأن السلطات البريطانية في البحرين لها حق النظر والفصل في شؤونهم القضائية، الأمر الذي أثار استياء الشيخ وتبرمه بسياسة المعتمد، التي تنتقص من سلطاته، وظلت علاقته بديكسون تتدهور، حتى انتهت خدمته في البحرين وخلفه الميجور "ديلي Daly" عام 1921.
ولم يكن المعتمد الجديد خيراً من سلفه، فقد اتبع سياسة مؤداها تحويل البلاد إلى محمية بريطانية من الناحية الفعلية، وذلك بموجب مرسوم أصدره عام 1922، خولت بموجبه السلطات البريطانية إدارة الشرطة وأجهزة الحكومة وكافة إدارتها، فضلاً عن سن اللوائح والقوانين، كما أرسلت بريطانيا "تشارلز بلجريف Belgrav" ليعمل مستشاراً لحكومة البحرين، واستطاع هذا بعد شهور من وصوله أن يصبح قائداً عاماً للشرطة ورئيساً لشؤون القضاء ومراقباً عاماً للإدارة المالية والصحة والأشغال. باختصار لقد أصبح بلجريف هو الحاكم الفعلي خلال الفترة (1926-1957) وعندما عزل وحل محله بريطاني آخر، بلقب سكرتير عام لحكومة البحرين، ظلت كثير من الدوائر الحكومية يديرها بريطانيون حتى استقلت البحرين عام 1971([4]).
والثابت أن السلطات البريطانية وقفت بشدة ضد الحركة الوطنية وعملت على قمعها، خاصة خلال عام 1922 عندما استنجد الشيعة بالحكومة الإيرانية وهو ما ترتب عليه مطالبة إيران بأن يكون لها ممثل قنصلي في البحرين، أسوة بعبد العزيز آل سعود، الذي كان له وكيل ينظر في مصالح رعاياه في البحرين، وقد استفز ذلك المقيم السياسي البريطاني في الخليج، وجعله يقترح وضع برنامج إصلاحي اعتقد أنه يضمن عدالة توزيع الضرائب بين مختلف الطوائف ويعالج مساوئ نظام الغوص، كما اقترح عزل الشيخ عيسى بحجة تقدم سنه (75 سنة) وعدم قدرته على إدارة البلاد، على أن يخلفه ابنه الشيخ حمد في الحكم، والذي سيكون قادراً على تحمل المسؤولية وإجراء الإصلاحات الضرورية بالتنسيق مع المعتمد السياسي البريطاني، وكان واضحاً أن بريطانيا في سعيها لتبني هذه الخطة الجديدة تستهدف زيادة نفوذها في البلاد من خلال موظفيها الذين سيتولون إجراء الإصلاحات، التي ستتم من خلالهم وبدرجة محسوبة.
ونتيجة لحدوث اضطرابات جديدة 1922 رأت السلطات البريطانية ضرورة تنحية الشيخ عيسى عن السلطة بعد أن أظهر تعاطفاً واضحاً مع الوطنيين، وبالفعل عين ابنه حمد خلفاً له، خاصة وأنه كان ولياً لعهده ومعاوناً له في شؤون الحكم والإدارة، ولم يكن الشيخ عيسى معارضاً لتولية ابنه، فهو الذي ولاه ولاية العهد، ولكنه كان يرفض الأسلوب البريطاني والتدخل في شؤونه على هذا النحو، ومع هذا ظل الشيخ عيسى يعاون ابنه في شؤون الحكم حتى توفي (عام 1932) وكان الشيخ حمد قد بدأ حكمه فعلاً منذ عام 1922، ومن ثم شرعت السلطات البريطانية في تطبيق خطتها الإصلاحية، والتي تضمنت تخفيض الاعتمادات المالية للأسرة الحاكمة، ووضع نظام لإصلاح الجمارك تحت إشراف الموظفين الإنجليز، وتنظيم الفرق الجديدة للشرطة تحت قيادة ضباط إنجليز، وإعادة تنظيم الميزانية وتسجيل الأراضي، وإصلاح نظام الغوص بوضعه تحت إشراف الحكومة، ونقل العاصمة من المحرق إلى المنامة.. واتبعت السلطات البريطانية ذلك بنقل قاعدتها البحرية في الخليج من جزيرة هنجام إلى البحرين، فصارت البحرين تشكل مركزاً هاماً باعتبارها قاعدة ملاحية وجوية هامة خاصة بعد إنشاء قاعدة جوية في المحرق([5]).
* * *
وبات واضحاً أن خطط بريطانيا الإصلاحية، التي اقترنت بإحكام سيطرتها على البلاد، خاصة بعد أن أصبحت ذات أهمية استراتيجية لبريطانيا، إنما كانت تستهدف مزيداً من السيطرة ، وهو ما أثار الشعور الوطني من جديد، غير أن هذا الشعور في هبته الجديدة، اختلط بنعرات ونزاعات طائفية، لعب الإنجليز دوراً في إثارتها، لذلك تقدم قادة الحركة الوطنية بالتماس إلى المقيم السياسي البريطاني في الخليج عام 1932 عبروا فيه عن مطالبهم، وهاجموا الإصلاح "بالأسلوب البريطاني" الذي قضى بعزل الحاكم على غير رغبة شعبه، وقد ركزوا في مطالبهم على ضرورة بقاء الشيخ عيسى في منصبه، على أن يكون ابنه وكيلاً له بمحض إرادته، وأن يفصل في القضايا طبقاً لقواعد الشريعة الإسلامية، وأن تنتخب البلاد برلماناً وطنياً، وأخيراً أن يكف المعتمد البريطاني عن التدخل في الشؤون الداخلية للبحرين([6]). غير أن السلطات البريطانية واجهت هذه المطالب بالعنف وإلقاء القبض على قادة الحركة الوطنية ونفيهم خارج البلاد، وهو ما جعل الحركة تتبع أسلوباً جديداً، عبرت عن نفسها فيه من خلال المنتديات الأدبية والإسلامية والتي لم تلبث أن اتجهت بشكل تلقائي إلى العمل السياسي السلمي.
وفي بداية الثلاثينيات من القرن العشرين شهدت البحرين عدة تغييرات هامة كان أولها تأثير انعكاس الأزمة الاقتصادية العالمية عليها، واكتشاف اليابان للؤلؤ الصناعي (المزروع) الذي أدى إلى تدهور حرفة الغوص التي كانت تشكل نشاطاً أساسياً للسكان، وثانيها وفاة الشيخ عيسى في ديسمبر عام 1932 وانفراد الشيخ حمد بن عيسى بالحكم وحده (1932-1942) رغم أنه كان يمارسه بالفعل منذ نحو عشر سنوات، وثالثها اكتشاف النفط بعد تأسيس شركة نفط البحرين (بابكو BAPCO) الأمريكية – البريطانية عام 1930 والتي شرعت في التنقيب عن النفط في الأراضي التي شملها عقد الامتياز، واستطاعت اكتشاف النفط بالفعل في منطقة "عوالي" في عام 1932 لتصبح البحرين أسبق إمارات الخليج جميعاً في اكتشاف النفط، الذي بدأ تصديره إلى أسواق العالم عام 1934، مما كان له آثاره الإيجابية في الاستفادة بعائداته لدفع عجلة الإنشاء والتعمير وإنعاش السوق المحلية، واستيعاب الكثير من الأيدي العاملة التي كانت تحترف الغوص، كما كان لاكتشاف النفط آثار سيئة حيث جددت إيران ادعاءاتها القديمة بملكية جزر البحرين والسيادة عليها.
* * *
ورغم أن فترة الثلاثينيات شهدت علواً واضحاً للمد الوطني نتيجة ازدياد الوعي بين الأهالي، خاصة بين شرائح الطبقة الوسطى من الذين تلقوا تعليماً عصرياً حديثاً، بعد انتشار التعليم الحديث منذ عام 1926، فظهرت فئات جديدة كانت أكثر تنوراً بالنسبة للمحيط العام في المنطقة، فضلاً عن انتماء هذه الفئات إلى طبقة التجار التي تضررت بفترة الكساد الاقتصادي، ويضاف إلى هؤلاء وأولئك الجماعات المستضعفة من السنة والشيعة، ومع عدم تحقق ما كان ينشده الوطنيون، لم يلبث الشعور الوطني أن تأجج من جديد وقام بانتفاضة كبيرة عام 1938، كان من أسبابها تشديد المستشار البريطاني بلجريف قبضته على البلاد وتدخله في كل الأمور، وتجديد وتحديث بريطانيا لقاعدتها البحرية في البحرين عام 1935، مما أدى إلى تعاظم الشعور المعادي للإنجليز، خاصة بين العناصر المتعلمة والمستنيرة، حيث تأثر المواطنون بما حدث من إنشاء مجلس تشريعي في الكويت عام 1938 وقيام حركة إصلاحية في دبي في نفس العام، استهدفت إقامة مجلس شوري يعاون في شؤون الحكم، كما كان من بين أسباب الانتفاضة كذلك ما اتبعته شركة النفط من سياسة تفضيل العناصر الأجنبية وتجاهلها للعناصر الوطنية.
وقد عبرت الحركة الوطنية عن نفسها في شكل موجات من الإضرابات والمظاهرات، توحدت فيها عناصر السنة والشيعة في جبهة متماسكة واستطاعت تقديم مذكرة تضم مطالبها، التي تضمنت تأسيس مجلس تشريعي يضم عناصر متساوية من أنصار المذهبين ويرأسه ابن الحاكم، وإصلاح إدارات الشرطة والقضاء والتربية، وضمان الأفضلية للمواطنين في العمل بشركة النفط. وقد حاول المستشار البريطاني شق صفوف الحركة من خلال محاولة تحييد الشيعة، ولكن فشلت المحاولة وتفجرت موجات السخط في أواسط الطلبة والعمال من جديد، واخترقت المظاهرات الشوارع وأغلقت الأسواق، فواجهت السلطات ذلك بالتصدي لهم بالقوة واعتقال عدد من قادة الحركة في نوفمبر 1938، كما نفت بعضهم إلى الخارج، وقد أتاحت ظروف الحرب العالمية الثانية فرصة للمسؤولين الإنجليز للقيام بمزيد من أعمال القمع والشدة ضد الحركة الوطنية، بينما شهدت البحرين خلال نفس الفترة وفاة حاكمها الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة في فبراير 1942 وتولية ابنه الأكبر الشيخ سلمان بن حمد مقاليد الحكم (1943-1961).
وما إن وضعت الحرب الثانية أوزارها، حتى اتخذت السلطات البريطانية خطوات أكبر لتوطيد نفوذها في البحرين، خاصة بعد أن تم نقل المقيمية البريطانية من بوشهر إلى البحرين، التي أصبحت منذ عام 1946 أهم قاعدة للوجود والنفوذ البريطاني في منطقة الخليج كلها([7])، كما ركز المستشار بلجريف كل الصلاحيات التنفيذية والقضائية في يده وبدأ يمارس دوره باعتباره رئيساً للحكومة وقائداً للشرطة والمتصرف في مالية البلاد ومرافقها، مما انعكس بشكل سيء على فساد الإدارة الحكومية لعدم تبني سياسة سليمة تستهدف صالح البلاد. في الوقت الذي شهدت فيه سنوات ما بعد الحرب نمواً في الوعي السياسي والوطني والقومي لدى الأهالي، وذلك بتأثير الصحافة السياسية التي عرفتها البلاد قبل غيرها من إمارات الخليج الأخرى، وكانت السلطات البريطانية قد شجعت، خلال سني الحرب، إصدار إحدى الصحف لمتابعة ونقل أخبار المعارك إلى البحرين، إلا أن هذه الصحيفة لم تلبث أن تحولت بعد الحرب إلى منبر يعبر عن الاتجاهات الجديدة في البحرين، كما أسس أحد قادة الحركة الوطنية وهو عبد الرحمن الباكر مجلة "صوت البحرين" عام 1949 التي أعطت اهتماماً خاصاً للقضايا الاجتماعية، فشنت حملات لإلغاء الرق، وهاجمت استغلال شركات النفط للعمال العرب، وتخطت كتاباتها نطاق البحرين بإثارة قضايا بلدان الخليج المجاورة، كما أسس علي سيار صحيفة أخرى هي "القافلة"([8]) بالإضافة إلى صحف أخرى مثل "الوطن" التي لعبت دوراً هاماً في إثارة الوعي الوطني منذ عام 1956، وكانت هذه الصحف تشكل متنفساً للأفكار والاتجاهات والمشاعر الوطنية والقومية.
* * *
وقد شهدت الخمسينيات ظهور عدد من الأندية والجمعيات الثقافية والرياضية، التي ما لبثت أن تحولت إلى منتديات فكرية وسياسية، وانخرط الطلاب وفئات من التجار وموظفي الشركات الأجنبية في عضويتها فضلاً عن المعلمين وغيرهم من أبناء الأقطار العربية المقيمين في البحرين، وكانت أهم هذه المنتديات "نادي الخريجين" و"جمعية الأدباء"، فضلاً عن "المنتدى الإسلامي" الذي تحول إلى منتدى سياسي. وقد أفرز هذا المناخ مظاهرات عبرت عن شعورها القومي بتأييد عرب فلسطين في صراعهم مع الصهيونية عام 1947، وكذلك ظهرت تنظيمات جماهيرية تعارض الحماية البريطانية وتطالب بحق تقرير المصير والإلحاح على ضرورة إشراك الجماهير في إدارة شؤون البلاد، خاصة بعد نجاح الهند وباكستان في الحصول على استقلالهما عام 1947. يضاف إلى ذلك كله تجاوب المواطنين مع مبادئ ثورة يوليو في مصر عام 1952 التي انتقلت أصداء نجاحاتها إلى البحرين وغيرها، مما كان مصدر وحي وإلهام للوطنيين في البحرين وغيرها من إمارات الخليج العربي([9]).
وقد حاولت الحركة الوطنية تدعيم موقف الحاكم الشيخ سلمان بن حمد لمواجهة التدخل البريطاني المتزايد في شؤون البلاد، غير أن الإنجليز حاولوا بذر بذور الفتنة بين السنة والشيعة حتى لا تقوى الحركة الوطنية على مواجهتهم، فكانت اضطرابات سبتمبر 1953، التي شابتها بعض الأحداث الطائفية التي عبر فيها كل طرف عن مصالحه الضيقة ومطالبه الخاصة، فتضاءلت في ظل ذلك المطالب الوطنية والدستورية العامة والمشتركة. وبالرغم من ذلك فقد شكلت بعض الأحداث الطائفية ونتائجها أساساً للعمل المشترك وللاتحاد المرتقب بين السنة والشيعة لتوحيد الجهود والتضامن، وبدأت الحركة الوطنية عام 1954 بدعوة المواطنين لاتخاذ مواقف من شأنها كفالة الحرية السياسية وإدخال بعض الإصلاحات في مجالات الصحة والتعليم والقضاء، ورغم هذه المطالب الإصلاحية المتواضعة إلا أن الحكومة واجهتها بالإرهاب والقمع، وبالانتقام من العمال الذين أيدوها وشاركوا في الإضراب الذي دعت إليه الحركة الوطنية، وادعت أنها حركات طائفية، لتسيء بذلك إلى الحركة الوطنية.
* * *
الحركة الوطنية وأحداث 1954-1956
وكان رد الفعل الوطني على ذلك مزيداً من التماسك داخل صفوف الحركة الوطنية، حيث أقسم قادتها يمين الإخلاص ونبذ الطائفية، وقد تم ذلك في اجتماع لزعمائها في 16 أكتوبر 1954، ذلك الاجتماع الذي أعلنوا فيه أيضاً تأسيس "الهيئة الوطنية" التي تضم هيئة تأسيسية دائمة، ثم هيئة إدارية انبثقت عنها، وانتخبت ثمانية أعضاء شكلوا هيئة تنفيذية عليا، تتولى تنفيذ ومتابعة القرارات، وانتخب عبد الرحمن الباكر رئيساً لها وعبد العزيز الشملان مساعداً له. وقد تم تفويضها بتقديم المطالب الوطنية للسلطات الحاكمة والسعي لديها في جميع ما فيه صالح البلاد، كما تأسس صندوق شعبي لجمع التبرعات لتغطية نفقات الحركة.
وقد أعدت الهيئة التنفيذية العليا بياناً تضمن مطالب الحركة التي يمكن تلخيصها فيما يلي:
1 – ضرورة تأسيس مجلس تشريعي يمثل الأهالي من خلال انتخابات حرة.
2 – وضع قانون عام مدني وجنائي يتمشى مع حاجات المجتمع وتقاليده وأن يقوم بإعداده هيئة من الخبراء على أن يعرض على المجلس التشريعي لإقراره، وإصلاح المحاكم، وأن يعين لها قضاة جامعيون ومتمرسون.
3 – تأسيس محكمة عليا للنقض والإبرام مهمتها الفصل في الخلافات بين السلطتين التشريعية والتنفيذية أو بين الحكومة وبين أفراد الشعب.
4 – السماح بتأليف نقابات للعمال وأصحاب المهن الحرة، على أن يقر المجلس التشريعي لوائحها.
5 – الاستفادة من عائدات النفط بشكل أفضل، ووضع حد للهجرة الأجنبية لتوفير فرص العمل للوطنيين، ومناصفة الأرباح مع شركات النفط وإلغاء الإعفاءات الضريبية التي تتمتع بها([10]).
غير أن حكومة البحرين أصدرت بياناً رفضت فيه هذه المطالب، ووصفت واضعي البيان بأنهم «بعض أناس سموا أنفسهم ممثلين للشعب تقدموا بطلبات ليس من حقهم أن يتقدموا بها لأنهم لا يمثلون أحداً، وأن الحكومة جادة في تنفيذ الإصلاحات ضمن المخطط الذي رسمته…»([11]). كما لجأت الحكومة إلى تبني أساليب تستهدف تهدئة المواطنين من خلال الاستجابة لبعض مطالبهم، حيث شكلت لجاناً في بعض الدوائر الحكومية للتعرف على أوجه الفساد، لكن المواطنين قاطعوا هذه اللجان.
ويلاحظ أن الحركة الوطنية في البحرين ركزت جهودها على الاحتفاظ للبحرين بطابعها العربي، ولم تفكر في المساس بأوضاع الإنجليز في الخليج في هذه المرحلة، وإنما قصرت نشاطها على التنديد بتحكم الموظفين الإنجليز في الإدارات الحكومية وعلى فساد هذه الإدارات.
كما تميزت الحركة الوطنية باتجاهها الوحدوي في الخليج من خلال تطلعها إلى إقامة اتحاد فيدرالي يضم الإمارات العشر وهي إمارات الساحل العماني السبع وقطر والبحرين والكويت([12]).
وكان رد الفعل الحكومي مخيباً لآمال الوطنيين الذين عقدوا مؤتمراً شعبياً في 28 أكتوبر 1954 ضم آلاف المواطنين، انتقدت فيه الحكومة علناً، وطالب المجتمعون بتأسيس مجلس تشريعي منتخب باعتباره حجر الزاوية في بقية الإصلاحات، ولما لم تستجب الحكومة أعلن عن إضراب عام عطل كل مرافق الحياة في البحرين (4-10 ديسمبر) أشرفت الهيئة التنفيذية العليا خلاله على تأمين الخدمات الأساسية للمواطنين، فاضطرت الحكومة إلى التفاوض مع قادة الهيئة مقابل إنهاء الإضراب العام، وخلال المفاوضات وافقت الحكومة على إجراء انتخابات لمجلسي التربية والصحة، وحين طالبت الهيئة بسن قانون للعمل والعمال، ماطلت الحكومة، فواجهتها الهيئة بتأسيس اتحاد للعمال ووضع قانون للعمل، عندئذ كلفت الحكومة خبيراً قانونياً بسن قانون جديد بالاشتراك مع ممثلين عن العمال وأرباب العمل والحكومة، وبالفعل توصلت اللجنة إلى صيغة نهائية للقانون، وافق عليها الحاكم ولكن السلطات البريطانية عطلت صدوره.
وقد انتقلت الحركة الوطنية إلى مرحلة جديدة نتيجة للحملات التي شنت ضد سياسة بلجريف والإمبريالية البريطانية في الخليج من إذاعات وصحف القاهرة ودمشق وبغداد، التي أيدت نضال الهيئة التي تأثرت بذلك، وعندما حاول الحاكم تعيين مجلسين للتربية والصحة لتقديم المشورة له، نددت بهما وشددت في حملتها الدعائية، فاضطرت الحكومة إلى إنشاء مكتب للعلاقات العامة في يوليو 1955 أنيط به القيام بحملات مضادة لدعاية الهيئة ترأسه ابن المستشار بلجريف الذي كان يشرف على الإذاعة، ويعده والده ليخلفه في منصبه. وعندما زار وزير الخارجية البريطاني "سلوين لويد" البحرين في 2 مارس 1956 استقبلته الجماهير بالمظاهرات والحجارة والتنديد بسياسة الإنجليز عموماً، مما كان له أثره في تبني السلطات البريطانية خطة صريحة لقمع الحركة الوطنية وتصفيتها، كما بات خطر الحركة الوطنية على النفوذ البريطاني واضحاً، ليس في البحرين وحدها، وإنما في سائر إمارات الخليج([13]).
غير أن عام 1956 شهد تجدد الصراع بين الحركة الوطنية والنفوذ البريطاني بسبب أحداث العدوان الثلاثي على مصر في أكتوبر عام 1956 وانتفاضة شعب البحرين لاستنكار العدوان، وقد لعبت قيادة المعارضة دوراً خطيراً في تهيئة الرأي العام لمواجهة الموقف وكان أهم ما أصدرت منشورها رقم (78) الذي تضمن قرارات تدعو المواطنين إلى مقاطعة البضائع الإنجليزية والفرنسية، والامتناع عن شحن أو تفريغ السفن التابعة للدولتين، وعدم تموين طائرتهما، وكذلك عدم تزويد القوات البريطانية بالمؤن، وأخيراً دعوة الموظفين والعمال للانسحاب من خدمة تلك القوات([14]).
وقد واجهت السلطات هذه الانتفاضة بإعلان حالة الطوارئ في نوفمبر واعتقال زعماء الهيئة، وبعد محاكمات سريعة وظالمة ودون ضمانات، حكم على الباكر والشملان والعليوات بالسجن مدة أربعة عشر عاماً لكل منهم، بينما حكم على إبراهيم فخرو وإبراهيم موسى بالسجن عشرة أعوام لكل منهما، وأرسل الثلاثة الأول إلى سجن في جزيرة "سانت هيلانة"، أما الآخران فقد سجنا في جزيرة "جدة" بالبحرين([15])، كما شرعت السلطات في توسيع دائرة القمع والإرهاب، لمواجهة موقف عمال البحرين الذين أوقفوا ضخ النفط وتكريره ومع ذلك ألحقت المظاهرات الشعبية أضراراً بالمنشآت البريطانية في المنامة، حتى اضطرت القوات العسكرية البريطانية إلى التدخل بحجة حماية المصالح الأجنبية، ومع ذلك استمر الإضراب العام، الذي وجه فيه الوطنيون بقسوة بالغة وقطعت أرزاقهم، وعطلت الصحف، ودخلت البلاد في مرحلة خطيرة من القمع والتضييق والإرهاق.
وعلى الرغم من قمع الحركة الوطنية في البحرين على هذه الصورة، إلا أنها نجحت في الإطاحة بالمستشار بلجريف في بداية عام 1957 الذي رأت الحكومة البريطانية التضحية به لتهدئة الحركة، واستبدلت منصبه بمنصب جديد هو "سكرتير حكومة البحرين" الذي تولاه "المستر سميث" بنفس السلطات تقريباً وإن بدت وظيفته شكلياً محدودة الصلاحيات، وبالرغم من ذلك فقد ظل الموظفون الإنجليز مسيطرين على الجهاز الحكومي في إدارات الجمارك والبوليس والأمن العام وغيرها، وظلت الأوضاع هكذا حتى قبيل الاستقلال.
* * *
وبعد قمع الحركة الوطنية ونفي زعمائها على النحو السابق وإعلان قوانين الطوارئ وإغلاق الصحف المحلية خلال الفترة (1956-1966)، مرت البلاد بفترة من الهدوء النسبي لعدة سنوات تولى خلالها الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة مقاليد الحكم (1961-1999)، ولم تلبث الحركة الوطنية بعد ذلك أن نشطت من جديد في شكل حركات عمالية، وإن لم تقتصر على المطالب العمالية وحدها بطبيعة الحال، وإنما عبرت عن مطالب الحركة الوطنية بصفة عامة، وكانت أبرز هذه الحركات تلك التي نشبت في مارس 1956 نتيجة تسريح شركة نفط البحرين "بابكو" خمسمائة عامل عربي دفعة واحدة، فتضامن الطلبة مع العمال وقاموا بمسيرات ومظاهرات ضخمة طالبت بإعادة العمال ومنع تهجيرهم، عندئذ اعترضت الشرطة المظاهرات وأصابت واعتقلت أعداداً من الطلاب، فازدادت حدة الغضب وأصبحت المظاهرات عامة، وشاركت فيها النساء، رغم تصدي الشرطة لها بالقوة، مما أسفر عن قتل وجرح الكثيرين.
وعلى الرغم من أن شركة "بابكو" قد أرغمت على الاستجابة لبعض المطالب، وسمحت بعودة كثير من العمال المبعدين، كما دفعت تعويضات لأعداد أخرى، إلا أن عمليات الاعتقال التي تعرض لها الوطنيون ظلت قائمة، حيث اعتقل الكثيرون منهم في قلعة المنامة وفي القواعد البريطانية، وفي جزيرة "جدة". وفي نفس الوقت جعلت السلطات البريطانية تخطط بذكاء للالتفاف حول قيادات الحركة الوطنية ومطالبها، فقامت بنقل كل الصلاحيات الإدارية إلى الأسرة الحاكمة وإلى الفئات المعتدلة والمحافظة، ومن هنا خففت الرقابة على الصحف وأتاحت من جديد حرية تكوين النوادي الرياضية والثقافية والتي كان على رأسها "نادي خريجي الجامعات".
لقد بدأ واضحاً إصرار السلطات البريطانية على مواجهة الحركة الوطنية، سواء بأساليب القمع، أو الالتفاف حول مطالبها وتحقيق بعضها بشكل لا يضر بالأوضاع القائمة، وكان ثمة خوف لدى الإنجليز من انتقال تأثير الحركة من البحرين إلى مناطق النفوذ البريطاني الأخرى في الخليج، باعتبار أن الحركة اتخذت أبعاداً قومية وتقدمية، في الوقت الذي بدأت فيه السلطات البريطانية تحول البلاد إلى قاعدة رئيسية للوجود البريطاني لمنطقة شرقي السويس، خاصة بعدما قررت بريطانيا نقل قواعدها العسكرية من عدن إليها عام 1967، ومهدت لذلك بتوقيع اتفاقية لزيادة مدفوعاتها مقابل استخدام قواتها العسكرية لمرافق البحرين([16])، واستعدادها للتوسع في إنشاء القواعد العسكرية لاستيعاب التطورات الجديدة، ومع ذلك ظلت مسألة احتفاظ بريطانيا بوجودها العسكري شرقي السويس محل جدل في الدوائر السياسية البريطانية، خاصة في ضوء تدهور الاقتصاد البريطاني وتجربة بريطانيا المريرة في عدن، غير أن الحكومة البريطانية ما لبثت أن قررت في يناير 1968 إنهاء وجودها في منطقة الخليج، وسحب قواتها منها مع نهاية عام 1971.
* * *
نحو الاستقلال
كان طريق البحرين إلى الاستقلال مليئاً بالعقبات أكثر من غيرها من إمارات الخليج العربية، فالوضع القانوني الذي قيدتها به بريطانيا، ووضع البحرين الاستراتيجي بالنسبة لها، جعل بريطانيا أشد إصراراً على الإمساك بمقاليد الأمور فيها، وقد تولى بلجريف هذه المهمة عملياً، وسيطر على شؤون البلاد الداخلية والخارجية بشكل أثار أعنف المشاعر الوطنية، ولذا جاء إبعاده عن البحرين بعد ثلاثين عاماً من الخدمة فيها نهاية لعهد بغيض من الحكم الإنجليزي المباشر.
وكان ثمة عقبة أخرى توحي بصعوبة نيل الاستقلال، وهي تشدد إيران في إدعاءاتها بالسيادة على البحرين، ففي الماضي كانت إيران تكتفي بتقديم مذكرات تتضمن أدلتها من وجهة نظرها، على وجود هذه السيادة، ثم عدلت عن هذا الأسلوب منذ الحرب العالمية الثانية وجعلت تتخذ بعض الإجراءات الرمزية لإثبات سيادتها، فاعترضت مثلاً على تمثيل البحرين في بعض الهيئات والمؤتمرات الدولية، كما اعترضت على ورود اسم البحرين كإحدى دول الخليج العربي في بعض وثائق الأمم المتحدة، كما شنت الصحف الإيرانية حملاتها ضد الوجود البريطاني في البحرين، وكذلك استصدرت الحكومة الإيرانية عام 1946 قراراً من المجلس النيابي يقضي بتخويل السلطة للحكومة الإيرانية في ممارسة سيادتها على البحرين، وتطبيق القوانين الإيرانية عليها، وراحت وزارة التعليم في إيران تدرس للتلاميذ معلومات عن البحرين باعتبارها تنتمي إلى إيران([17]).
وعندما قام رئيس الوزراء الإيراني الدكتور مصدق بتأميم النفط عام 1951 اعتبرت الحكومة الإيرانية أن القرار يسري على البحرين، ثم ما لبثت أن عرضت مسألة البحرين على هيئة الأمم المتحدة، معتمدة على تأييد الاتحاد السوفييتي، غير أن المنظمة الدولية لم تأخذ المسألة مأخذ الجد، وعند انضمام إيران لحلف بغداد عام 1955 كانت تأمل كسب تأييد بريطانيا، شريكتها في الحلف، ولكن بريطانيا استمرت على سياستها التقليدية وهي إبقاء الأوضاع على ما هي عليه، والحاصل أن جامعة الدول العربية أخذت على عاتقها الدفاع عن عروبة البحرين أمام المنظمات الدولية، وراحت تعد المذكرات والأسانيد لمواجهة كل ادعاء إيراني، كما شددت بعض الإذاعات العربية لهجتها ضد إيران وحكومة الشاه بصفة خاصة، وبدا أن إيران، وقد رأت عاصفة العروبة تجتاح المنطقة، تقابل ذلك باتخاذ مواقف متطرفة، فأصدرت عام 1957 قراراً باعتبار البحرين المديرية الرابعة عشر في إيران، وخصصت لها مقعدين في مجلس النواب! غير أن إيران لم تلبث أن وجدت أن حججها غير مقنعة، كما لم تتلق التأييد الذي تأمل فيه، ويبدو أن الشاه اقتنع أخيراً بعدم جدوى المسألة برمتها.
ففي يناير 1969 فاجأ الشاه العالم في مؤتمر صحفي بقوله أنه يقبل استفتاء الشعب في البحرين على حق تقرير المصير، وأنه لا يريد أن يكون حكمه للبحرين على غير رغبة السكان، ولعل الشاه قد اقتنع بأن صداقة بلاده للعرب أهم بكثير من مطالبته بالبحرين([18]).
وقد اقترح السكرتير العام للأمم المتحدة أن يكتفي بمبعوث شخصي من قبله يذهب للبحرين لاستطلاع الرأي بشأن مستقبلها، على أن يكتب تقريراً بنتيجة مهمته. وذهب المبعوث على رأس بعثة إلى البحرين في مارس 1970 لإنجاز المهمة حيث قضى بها نحو ثلاثة أسابع لاستطلاع آراء المواطنين حول مستقبل بلادهم، ثم عاد ليقدم تقريره إلى سكرتير الأمم المتحدة، الذي ذكر فيه أن معظم الردود التي تلقاها كانت بشأن «قيام دولة ذات سيادة واستقلال تام، وأن الأغلبية العظمى كانوا يضيفون إلى ذلك أن هذه الدولة يجب أن تكون دولة عربية». ثم عرض التقرير على مجلس الأمن في مايو 1970 حيث صادق عليه، وأكد الوفد الإيراني في الأمم المتحدة قبول بلاده بهذه النتيجة وأنها تريد الخير لشعب البحرين وتتطلع إلى التعاون معه مستقبلاً. والواقع إن إصرار شعب البحرين على تحقيق استقلاله والدفاع عن عروبته، قد أدى إلى هذه النتيجة التي حررت البلاد من الأطماع الإيرانية مما اعتبر خطوة مهمة نحو استقلالها([19]).
أعلن الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة في بيان استقلال بلاده أنه «نظراً لصدور قرار مجلس الأمن التاريخي في 11 مايو 1970 الذي أكد بصورة قطعية ومباشرة رغبة شعب البحرين في الحصول على اعتراف دولي بكيانه
وشخصيته، كشعب ينتمي إلى دولة مستقلة ذات سيادة وحرة في تقرير أسس علاقاتها بالدول الأخرى.. وعليه قررت الحكومة عزمها على إنهاء جميع المعاهدات والاتفاقيات السياسية والعسكرية التي تنظم علاقات التحالف بين حكومة البحرين والحكومة البريطانية، وعليه فقد بوشر فعلاً الانسحاب العسكري البريطاني من أراضي البحرين، وأن البحرين الدولة العربية المستقلة هي صاحبة السيادة المطلقة على أراضيها وأن لحكومتها حق تصريف شؤونها الخارجية وتنظيم علاقاتها الدولية، وأن تطلب من الدول الاعتراف بوضع البحرين كدولة عربية مستقلة… إلخ»([20])، وتبادل الشيخ عيسى مع السير "آرثر جفري"، المقيم السياسي البريطاني، المذكرات الخاصة بإلغاء المعاهدات والاتفاقيات السابقة، تمشياً مع سياسة الانسحاب البريطانية، فتخلت بريطانيا بذلك عن الحماية التي كانت ملزمة بتقديمها للبحرين، واستبدلت ذلك كله بمعاهدة صداقة نصت على التشاور والتعاون المتبادل بين البلدين، ثم توقيعها في 15 أغسطس 1971، لتصبح البحرين دولة مستقلة ذات سيادة.
وبعد إعلان الاستقلال بيومين صدر قرار بتسمية إمارة البحرين "دولة البحرين" وحمل حاكمها لقب "أمير"، كما أبدل مجلس الدولة بمجلس وزاري، وانضمت البحرين لعضوية جامعة الدول العربية وعضوية هيئة الأمم المتحدة، فاكتسبت بذلك مقومات الاستقلال وشرعت في إصدار المراسيم والتشريعات بشأن تنظيم مؤسسات الدولة وتنظيمها على نحو يتفق مع عهد الاستقلال.
([1]) نص الاتفاقية المانعة الخاصة بالبحرين:
Aitchison. C.U., A Treaties, Engagements and Sanads, Vol. XI, Calcutta 1929, p. 237.
([2]) أحمد طربين، الفصل الأول من كتاب دولة البحرين، دراسة في تحديات البيئة والاستجابة البشرية، معهد البحوث للدراسات العربية، القاهرة، 1975، ص. 29-30.
([3]) فؤاد سعيد العابد، سياسة بريطانيا في الخليج 1853-1914، ذات السلاسل، الكويت، 1984، ج 2، ص. 260.
([4]) راجع جمال زكريا قاسم، الخليج العربي 1914-1945، دار الفكر العربي، 1973، صص. 207-208؛ وكذلك محمود صبحي، البحرين ودعوى إيران، الإسكندرية، 1962، ص. 17.
([5]) جمال زكريا قاسم، المرجع السابق، ص. 217.
([6]) أمين الريحاني، ملوك العرب، بيروت، 1939، ج 2، ص. 93 وما بعدها.
([7]) صلاح العقاد، التيارات السياسية في الخليج العربي، الأنجلو المصرية، 1992، صص. 260-261؛ جمال زكريا، المرجع السابق، صص. 223-224؛ محمود صبحي، المرجع السابق، صص. 232-233.
([8]) صلاح العقاد، المرجع السابق، ص. 261.
([9]) أحمد طربين، المرجع السابق، ص. 38.
([10]) إبراهيم شهداد، نشاط المعارضة السياسية في البحرين 1954-1956، الدوحة، 2000، صص. 47-48؛ وكذلك يوسف الفلكي، قضية البحرين بين الماضي والحاضر، القاهرة، 1953، صص. 89-92؛ وصلاح العقاد، معالم التغيير في دول الخليج العربي، معهد البحوث والدراسات، القاهرة، 1972، ص. 59.
([11]) إبراهيم شهداد، المرجع السابق، صص. 49-50؛ وكذلك جمال زكريا قاسم، الخليج العربي، دراسة لتاريخه المعاصر 1945-1971، معهد البحوث والدراسات، القاهرة، 1974، صص. 127-128.
([12]) المرجع السابق، ص. 129. ويوضح د. جمال زكريا أن الوطنيين لم يوجهوا أهمية إلى مسقط وعُمان حينئذ حتى تتطور أوضاع السلطنة اقتصادياً واجتماعياً وتتحد مع إمامة عُمان حتى يمكن ضمها إلى الاتحاد المقترح.
([13]) FO. 371/126869, Annaul Review of Bahrain Affairs for 1956.
([14]) FO. 371/120567, Tel. No. 971, From P.R. in Bahrain To. F.O. London, October 31, 1956.
([15]) Bahrain Records, Vol. V, 1952-1956. Archive Edition, London, 1986, pp. 9-10.
([16]) حول تفاصيل هذه الاتفاقية وملابساتها راجع جمال زكريا، المرجع السابق، صص. 135-136.
([17]) راجع صلاح العقاد، التيارات السياسية، المرجع السابق، صص. 265-266؛ جمال زكريا، الخليج العربي 1945-1971، المرجع السابق، ص. 137.
([18]) صلاح العقاد، المرجع السابق، ص. 267-268؛ جمال زكريا، المرجع السابق، صص. 148-149.
([19]) رياض نجيب الريس، صراع الواحات والنفط، هموم الخليج العربي 1968-1971، بيروت، 1973، ص. 200 وما بعدها.
([20]) راجع نص بيان استقلال البحرين في 14 أغسطس 1971 بكتاب منى غزال، تاريخ العتوب، آل خليفة في البحرين، صص. 264-266.
الدكتور أحمد زكريا الشِّلق، جامعة عين شمس – القاهرة