شهدت البحرين منذ مئة عام وبالتحديد في العام 1913 أول محاولة لتأسيس مكتبة عامة في البلاد من قبل الأهالي في العاصمة المنامة. وكانت الظروف مهيأة لإنشاء مكتبة عامة في البلاد بعد أن زاد عدد المتعلمين المتخرجين من المدارس التبشيرية في البلاد، وكذلك المتخرجين من الهند، إضافة إلى حفظة القرآن الكريم وكثرة علماء الدين الدارسين في الداخل والخارج.
وكانت مكتبة الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة التي أسسها في منزله بالمحرق في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي والتي كان يؤمها الشعراء والأدباء، أحد عوامل
تشجيع أبناء المنامة العاصمة لتأسيس مكتبة عامة تكون مفتوحة للجميع.
ومن بين أهم العوامل الرئيسية التي أدت إلى سرعة تبني افتتاح مكتبة عامة في البلاد العام 1913، تردد الشباب البحريني حينذاك على المكتبة الإرسالية بالمنامة التي أسسها القس صموئيل زويمر العام 1894، والتي أثارت حفيظة وقلق الأهالي من المتعلمين والمثقفين ورجال الدين في العاصمة، وخصوصاً أن هذه المكتبة كانت تعرض الصحف البريطانية لقراءتها بالمجان، كما كانت تعرض الكتب التبشيرية، الأمر الذي حدا بمجموعة من شباب المنامة الذين نالوا قسطاً من العلم والثقافة، إلى تبني تأسيس مكتبة عامة تكون بديلاً عن مكتبة الإرسالية التبشيرية.
وبدأت تلك الطليعة من الشباب الواعي حينذاك وهم: خليل المؤيد، ومحمد حجي حسين العريض، والشيخ محمد صالح يوسف، وناصر الخيري، ومحمد علي التاجر، وعلي بن خليفة الفاضل، وسعد الشملان، ومحمد إبراهيم الباكر، وسلمان التاجر، وعلي إبراهيم كانو… في تبني مشروع المكتبة. وفي أول اجتماع لهم تم اتخاذ قرار لتأسيس مكتبة عامة وافتتاحها في منتصف العام 1913 بالعاصمة المنامة، من خلال استئجار دكان كبير بشارع الشيخ عبدالله، ووضعوا فيه بعض الكراسي والطاولات ليكون مقراً للمكتبة، واشتركوا في مجلات «المقتطف» و «المنار» و «الهلال»، ووضعوا بعض الكتب في خزانات ليتم الاطلاع عليها كنواةٍ لتأسيس المكتبة.
وبمجرد سماع الأهالي عن افتتاح أول مكتبة عامة يسمح للجميع التردد عليها وقراءة الكتب والمجلات المتوافرة بها، عمّت الفرحة بين الجميع، ونالت اهتماماً واسعاً من قبل أبناء مدينتي المنامة والمحرق بصفة خاصة، وبقية مناطق البحرين بصفة عامة، وأصبحت مدار حديث الناس في الشوارع والطرقات وحتى المنازل.
كانت المكتبة تفتح في النهار فقط، وكان الإقبال على أشده، ما اضطر العاملين عليها التفكير بافتتاحها ليلاً لتستوعب الأعداد الغفيرة التي كانت تتطلع للاستفادة من مقتنياتها، إلا أن العقبة الوحيدة التي واجهت المؤسسين أن المكتبة لا يسمح لها أن تفتح ليلاً وفق الأنظمة والقوانين المعمول بها آنذاك، فاتجهوا إلى تحويل المكتبة إلى نادٍ، وفي ذلك سيتم السماح لهم بالافتتاح ليلاً.
نجح المؤسسون في تحويل المكتبة إلى نادي أطلق عليه «نادي إقبال أوال»، للتحايل على افتتاح المكتبة ليلاً. وزاد عدد المترددين على المكتبة في الليل بشكل ملفت وأصبحت المكتبة أو نادي إقبال أوال، المكان الناسب لتجمع المثقفين والمتعلمين آنذاك، يتحاورون فيما بينهم في أمور الفكر والثقافة. وقد تأثر أعضاء النادي بالدعوة الإصلاحية التي نادى بها رشيد رضا صاحب مجلة «المنار» وزميله محمد صدفي، الأمر الذي أثار حفيظة رجال الدين، حيث لم تكن الأندية في تلك الفترة مقبولة لديهم وخصوصاً أنهم جدوا في الآية الكريمة «وتأتون في ناديكم المنكر» (العنكبوت: 29)، سبباً وجيهاً للمطالبة بغلق النادي خوفاً من انتشار الفساد، فأخذوا يشوّهون سمعة أعضاء النادي، وقالوا عنهم الرهط العشرة (ويقصدون العشرة المؤسسين للنادي) الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، وانهم يأتون في ناديهم المنكر.
وقد وصل الأمر إلى أن ذهبت مجموعةٌ من المشايخ إلى القاضي قاسم بن مهزع وأخذوا يشوّهون سمعة جميع أعضاء النادي قائلين: انهم يا شيخ يأتون في ناديهم المنكر من خلال قراءة صحف النصارى مثل الهلال والمقتطف. وزاد الطين بلةً أن ناصر الخيري عزم مع مجموعة من رفاقه بينهم بعض المؤسسين للمكتبة، على الذهاب إلى الحج في العام نفسه، فكتب رسالةً إلى الشيخ رشيد رضا صاحب مجلة «المنار» سأله فيها عن حكمة مناسك الحج بصورة مثيرة جعل رجال الدين آنذاك يصبون جام غضبهم عليه. فقد كتب سبعة أسئلة يكفي أن نذكر سؤالين هما: ما هي الحكمة من تقبيل الحجر الأسود إذا عرفنا أنه حجر عادي لا يضر ولا ينفع، ولا يخفي ما في ذلك من مظاهر الوثنية؟
والسؤال الثاني: نرى كثيراً من علماء الأمة الإسلامية ومرشديها المصلحين منهم من عاش ومات ولم يحج مع أنه رحل في سنته مرتين أو ثلاثاً إلى أوروبا وإلى غيرها من البلاد ولم يذهب إلى مكة؟
أدت تلك الأسئلة والاستمرار في أنشطة المكتبة والنادي، إلى تحامل المشايخ على جميع المؤسسين، فتم تهديدهم وتهديد ناصر الخيري بجدع أنفه إن لم يقم بإغلاق النادي باعتباره أحد الأعضاء الرئيسيين المؤسسين للنادي، فخاف على أنفه من الجدع بأمر شرعي، وانتهى الأمر بغلق النادي في نفس عام تأسيسه، وقُضي بذلك على أول تجربة لتأسيس مكتبة عامة من قبل الأهالي في البلاد منذ مئة عام.
منصور محمد سرحان، صحيفة الوسط البحرينية – العدد 3860 – الثلثاء 02 أبريل 2013م
رحيل المؤسس الأول للمكتبات العامة في البحرين
فقدت البحرين برحيل المغفور له الأستاذ محمد حسن صنقور أحد رجالاتها الذين بذلوا عطاء مميزاً في حياتهم. ويعد الفقيد المؤسس الأول لحركة المكتبات العامة في البحرين وإن كان قد سبقه في هذا المجال الأستاذ عبدالكريم العليوات والأستاذ أحمد السني، إلا أنهما خدما في مجال المكتبات لفترة محدودة لا تقاس بالفترة التي عمل فيها الفقيد على مدى أكثر من أربعين عاماً أي من العام 1947م حتى منتصف العام 1988م.
لقد تعرفت علية لأول مرة في العام 1973م حين كنت مدرساً للغة الانجليزية بمدرسة مدينة عيسى الثانوية حين استدعاني مدير المدرسة آنذاك مصطفى جعفر وعرض عليّ وظيفة أمين مكتبة المنامة العامة باعتبار الشروط المطلوبة لتلك الوظيفة تنطبق عليّ ومنها أن يكون بحريني الجنسية، ويحمل مؤهلاً جامعياً، ويتقن اللغة الانجليزية ولديه إلمام لا بأس به من الثقافة، وقال لي: غداً ستقابل محمد صنقور مراقب المكتبات العامة حينذاك، مدير إدارة المكتبات العامة فيما بعد.
كانت المقابلة مع صنقور أكثر من ممتازة فبعد أن طرح عليّ العديد من الأسئلة قال: أنت خير من يتولى هذا المنصب، وقد تم نقلي للعمل بالمكتبة العامة اعتباراً من العام 1973م. ولقد جنيت الكثير من وراء عملي برفقته فقد كان رحمه الله معروفاً لدى الجميع في البحرين ومنهم الوزراء والمسئولون وكبار موظفي الدولة والكتاب والمثقفون، ما جعلني ارتبط بصداقات مع أولئك المسئولين والأدباء والكتاب حتى يومنا هذا.
كان دمث الخلق، متواضعاً، على درجة كبيرة من العلم والثقافة، وكان حاضر البديهة، محباً للقراءة والاطلاع، لدرجة أنه كان يقضي الكثير من وقته في القراءة والبحث، ما جعله أحد أكبر المثقفين في البحرين. وكان يتردد على زيارته في مكتبه وبصورة مستمرة مجموعة من رجالات البحرين أتذكر منهم: علي محمد فخرو، حسن جواد الجشي، محمود المردي، محمد قاسم الشيراوي، إبراهيم العريض، جليل إبراهيم العريض، وخليل المريخي، والكثير من الأدباء وكتاب الحداثة آنذاك ومنهم: علوي الهاشمي، وقاسم حداد الذي عمل بالمكتبة العامة، وخلف أحمد خلف، ومحمد الماجد وغيرهم، إضافة إلى صلته مع الكثيرين من البسطاء من عامة الناس.
عمل رحمه الله في عقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين على إدخال مشاريع تصويرية لخدمة الثقافة، وكانت ثقته بي جعلتني أتولى تنفيذ الكثير من المشاريع التي تصب في تطوير الخدمات المكتبية، وبخاصة أنه اختارني رئيساً لأمناء المكتبات العامة وهي الوظيفة التي تلي المدير مباشرة. وكانت مشاريعه في عقدي السبعينيات والثمانينيات هي سبب بروزي شخصياً على الساحة الثقافية، ما يعني أنني مدان له في هذا المجال.
ومن بين مشاريعه التطويرية افتتاح مكتبة فرعية للمكتبة العامة بالمنامة وهي مكتبة المحرق العامة العام 1969م، وتأسيس مكتبة مدينة عيسى العامة العام 1971م. وفي العام 1971م أسس رحمه الله المكتبة المتنقلة للتطواف على مدن البحرين وقراها لإعارة الكتب فاستمرت هذه التجربة حتى العام 1976م حيت تم افتتاح أربع مكتبات عامة في أربع مناطق مختلفة من البلاد هي: سترة، الرفاع الشرقي، جدحفص، والحد، ما أدى إلى الاستغناء عن المكتبة المتنقلة. وأكمل مشاريعه بتأسيس مكتبة عراد العام 1979م.
وجد في أواسط السبعينيات من القرن العشرين افتقار المدارس إلى مكتبات مدرسية فطلب مني أن أضع خطة لإدخال خدمة المكتبة المدرسية المتنقلة على غرار المكتبة العامة المتنقلة. وتم تدشين المكتبة المدرسية المتنقلة العام 1975م لتقوم بالتطواف على المدارس التي لا توجد بها مكتبات مدرسية. واستمرت هذه الخدمة حتى العام 1981م حيث تم تحديث وتأسيس المكتبات بجميع المدارس على يدي وزير التربية والتعليم آنذاك علي محمد فخرو.
كانت له تجربة فريدة من نوعها تتمثل في إعداد عربات صغيرة (ترولي) توضع عليها الكتب وتطوف الأحياء بمدينة المنامة لإعارة الكتب على الأهالي وذلك في العام 1976م رغبة منه في إيصال الكتاب إلى المواطن البحريني بمختلف السبل. وقد دشن هذه التجربة وزير التربية والتعليم آنذاك الشيخ عبدالعزيز بن محمد آل خليفة، إلا أن هذه التجربة مع ما تحمله من أهداف ثقافية رائدة لم تنجح، فتوقفت خدمات العربات المتنقلة في العام نفسه 1976م. كما عمل على افتتاح فرع لمكتبة المنامة العامة بمجمع السلمانية الطبي يقدم خدماته للمرضى والعاملين بالمستشفى من أطباء وممرضين وموظفين وعاملين. وقد استمر هذا الفرع في تقديم خدماته قرابة خمسة أعوام متتالية اعتباراً من أوائل ثمانينيات القرن العشرين.
عرضت عليه رحمه الله فكرة تنظيم معارض الكتب فتحمس للفكرة وعملنا معاً على تنظيم أول معرض كتاب بمفهومه الحديث في تاريخ البحرين الثقافي وذلك في العام 1976م، وأطلقنا عليه معرض الكتاب العربي الأول حيث نظم في قاعة القسم الداخلي المجاورة للمكتبة العامة بالمنامة. ثم تطورت هذه الفكرة بدءاً من العام 1978م حيث تم تنظيم معرض البحرين الدولي الأول للكتاب، وهو المعرض الذي تحملت مسئوليته بعد إحالته على التقاعد.
لم تقتصر خدماته على تطوير المكتبات العامة فقط، وإنما أخذ يتطلع إلى نشر مفهوم الثقافة بكل أبعادها، فاتجه إلى تأسيس أول جمعية للموسيقى كان مقرها مبنى مكتبة المنامة العامة، وانضم إلى هذه الجمعية أبان تأسيسها الكثير من محبي فن الموسيقى. وبعد أن قوي عود الجمعية تركها ليتولاها مجموعة من الموسيقيين والمهتمين بالشأن الموسيقي.
ويعد صنقور المؤسس الأول لجمعية (بيت الحكمة) للمتقاعدين، حيث عرض الفكرة على مجموعة من المسئولين بالدولة، وتمكن مع رفاقه من تأسيس أول جمعية للمتقاعدين في المنطقة.
لقد كان مبدعاً بكل ما لهذه الكلمة من معنى، وكان من طلائع رواد نشر الثقافة في البحرين، وقدم جهوداً مضنية في فترة كان فيها كأنه ينحت في الصخر، إلا أنه على رغم ذلك لم ينل التكريم الذي يناسب عطاءه وجهوده التي بذلها في حياته بدءاً من عمله مترجماً للأخبار التي تذيعها «البحرين اللاسلكية» آنذاك حيث يترجم أخبار محطة الـ «بي بي سي» من الانجليزية إلى العربية، إلى عمله مدرساً، ومديراً للمكتبات العامة، ومؤسساً لبعض جمعيات المجتمع المدني، ما يجعل المطالبة بتكريمه من قبل الجهات الرسمية والأهلية من الأمور التي تجعلنا جميعاً نشعر برد الجميل لمن أحب وطنه وخدمه بأمانة وإخلاص، وتلك هي الشيم والقيم العربية الأصيلة.
منصور محمد سرحان، صحيفة الوسط البحرينية – العدد 3531 – الثلثاء 08 مايو 2012م