نقود الدولة العيونية في بلاد البحرين (نايف الشرعان)، دراسة وصفية تحليلية لنقود الدولة العيونية النقود العيونية ذات دلائل وإشارات مذهبية واقتصادية.
تلاميذ نحن أمام هذا التاريخ العظيم لبلاد البحرين.. هذه الحضارة التي مضى عليها آلاف السنوات لازالت قادرة على إمدادنا كل يوم بشيء جديد، فكلما استطعنا إبعاد اللثام عن معالم هذه البلاد القديمة، كلما زادنا ذلك ثقافة و إطلاعا وخبرة في هذه الحضارة.
فحضارة بلاد البحرين (القطيف، الأحساء، والبحرين الحالية) من أعقد الحضارات على الباحث نظراً لقدم و تعدد الاتجاهات المواكبة لحكام الإمارات و الحضارات التي قامت على هذه الأرض؛ أو حسب مقولة مايكل رايس (ذعرت كغيري من المستكشفين بسبب خطورة عدم فهم أهمية آثار البحرين وكمية المشغولات الإنسانية التي استخرجت منها). (الآثار في الخليج العربي 5000 – 323 ق. م مايكل رايس)
زاد من هذا التعقيد شحة المصادر التي تتناول هذه الحضارات، إذ برغم الجهود التي بدلها باحثون خليجيون في مجال تفسير كثير من الظواهر الأنثربولوجية والتاريخية في بلاد البحرين، لا نزال بحاجة إلى المزيد منها، وذلك لتمكن الذاتية عند بعض الكتاب إلى درجة سيرتهم نحو انطلاقات سياسية أو دينية، أو اجتماعية، أفقدتهم موضوعيتهم، ويحاول البعض منهم لوي عنق الحقيقة في سبيل تحقيق أهدافه، الأمر الذي نتج عنه إرباكا لدى الجيل الجديد في الخليج، في معرفة تحليلا مناسبا عن الحضارات التي قامت في بلاده.. ولهذا السبب دور كبير في تناقض بعض الدراسات الصادرة عن الخليج العربي وبلاد البحرين القديمة بما تشمله من قطر، البصرة، الأحساء، والقطيف إلى درجة التناقض مع بعضها.. هذا التناقض يتخطى في كثير من الأحيان التفاصيل وصولا إلى التناقض التام.
الدولة العيونية كمثال على ذلك من أكثر الدول التي نالها هذا التناقض في تصنيفها الأساسي، وانجر ذلك إلى تفسير التفاصيل على حسب التصنيف (الرئيسي) لكل باحث.
وثمة أسباب كثيرة للوقوع في مثل هذا التناقض تتمثل في ضياع الكثير من وثائق الدولة العيونية، وتحرير التاريخ الإسلامي على يد (أقل ما يقال عنها) غير أمينة، إضافة إلى تقلص ما يعتمد عليه في الاطلاع على تاريخ الدولة العيونية، في ديوان ابن المقرب العيوني، الذي أرخ لهذه الدولة في تاريخ الشرق الإسلامي، ذاكرا تفاصيل بعض الأحداث التي مرت على هذه الدولة.
وعلى الرغم من أهمية هذا الديوان، وفردانيته، في الحفاظ على تاريخ الدولة العيونية مكتوباً، إلا أن الكتاب والباحثين وجدوا طريقا للاختلاف على شرعية وجوده، ثم انجر ذلك إلى تكذيب بعض الروايات الواردة فيه، أو تفسير ما ورد فيها بحسب التوجه السياسي، الديني (المذهبي)للباحث أو الكاتب.
وفي الواقع احتاج ذلك الاختلاف إلى فترة زمنية لا بأس بها لحلها، وجاءت دراسة الباحث نايف الشرعان عن نقود الدولة العيونية في بلاد البحرين، لتؤكد بعض الحقائق ن وتنفي الأخرى بأسلوب علمي عصري لا غبار عليه.
أهمية الدراسة
وتنبع أهمية هذه الدراسة من أن:
دراسة المسكوكات الإسلامية المضروبة بشكل عام لها أهمية في إماطة اللثام عن بعض المغفول عنه من التاريخ، وعن التعامل التجاري والتطور الحضاري الذي توصلت له البلدان القديمة على سواحل الخليج العربي.
مسكوكات منطقة الخليج لها أهمية خاصة، لأنها لم تنل من اهتمام الباحثين إلا الشيء القليل، وارى أن مثل هذه الدراسة، بالطريقة العلمية التحليلية، التي اتبعها الباحث في دراسته، تعطي مجالا كبيرا للمناقشة بالأدلة، وتسهم إسهاما فاعلا في خدمة البحث العلمي في تاريخ الخليج والجزيرة العربية الاجتماعي والسياسي.
تعتبر القطع والمسكوكات التي تناولها الباحث؛ حديثة الاكتشاف، لم يتناولها الباحثون من قبل، الأمر الذي يجعل منها إضافة جديدة للمكتبة العربية.
تفاصيل الدراسة
صدرت هذه الدراسة (نقود الدولة العيونية في بلاد البحرين) عن مركز الملك فيصل للدراسات في 315 صفحة؛ مكونة من مقدمة وأربعة فصول، وبينما أوضحت المقدمة أهمية الدراسة جاءت فصول الدراسة على الشكل التالي:
الفصل الأول:
تضمن الفصل الأول الإطار الجغرافي والتاريخي لبلاد البحرين، وأهميتها الزراعية والبحرية، إضافة إلى خلفية تاريخية عنها قبل قيام الدولة العيونية، امتدادا من تاريخ هذه الدولة في صدر الإسلام مرورا بحركة الخوارج والزنج والقرامطة، وصولا لحكم أبو البهلول العوام بن يوسف الزجاج حيث أعلن استقلال جزيرة أوال عن حكم الفاطميين وكذلك يحيى بن عياش الذي أعلن استقلال القطيف، وطرد القرامطة منها، مما حاصر الوجود القرمطي في الأحساء فقط، الذي لم يهنوا به طويلا، عندما لم يستطيعوا الصمود أمام هجمات عبد الله بن علي العيوني؛ الذي تمكن بمساعدة السلاجقة من القضاء على دولتهم في العام 469هـ حيث قضى على دولة في جزيرة أوال معلنا بذلك بداية ارتباط كبير بين الأسرة العيونية، وتاريخ البحرين السياسي؛ طاويا بذلك قرنين من الحكم القرمطي لبعض بلدان البحرين.
الفصل الثاني:
يستعرض الكاتب في هذا الفصل تأريخ الدولة العيونية منذ بداية تأسيسها عام 469هـ حتى 636هـ؛ أي قرابة 170 عاما، وذلك منذ الانتصار على دولة القرامطة حيث سجل لنا الشاعر ابن المقرب العيوني؛ هذا الانتصار بقولة:
(سل القرامط من شظى جماجمهم فلقا وغادر هم بعد العدا خدما)
ويسجل الكاتب عهد السيادة والقوة للفضل بن عبد الله بن علي، الذي أدار شؤون الدولة يكل حزم وقوة، فضرب على أيدي الغرباء من قطاع الطرق، وشرع في عهده (الحمى) لابله، وابل المستضعفين من رعيته، التي كانت تمتد من ثاج شمالا إلى يبرين جنوبا، وكان دائم التنقل بين بلدان مملكته، لا يقيم في مكان واحد مسندا الأمور الداخلية لأخويه (عليا والحسن) في كل من الأحساء وأوال.أما في القطيف (عاصمة الدولة العيونية في ذلك الوقت) فيخلفه ابنه محمدا ن وقد قال الشاعر ابن المقرب العيوني في ذلك:
وإن يفتخر بالفضل فضل عبدل فيا بأبي أعراقه ومناسبه
همام حمى البحرين سبعا ومثلها سنين سارت في الفيافي مواكبه
ولم يرع من ثاج إلى الرمل مصرم على عهده إلا استبيحت حلائبه
والذي يبدو لي أن المؤلف ركز على الفترة المستقرة في الحكم والتوحيد، وهي الفترة التي حكم فيها الحسن بن عبد الله العيوني، وذلك سنة 539 اثر وفاة الأمير غره ابن الفضل، الذي فرض سيطرته اثر استلامه الحكم في القطيف، وولاء أبناء أخيه علي بن عبد الله، اللذين رأيا فيه القوة والسيطرة على معظم المواقع الاستراتيجية (حسب المؤلف) ص63 اضافة إلى كونه كبير الأسرة العيونية الأمر الذي مكنه من إدارة المناطق الثلاث للدولة العيونية، وإن عن طريق غير مباشر.. وإضافة إلى هذا وذاك فإن المؤلف ركز على مسكوكات الدولة العيونية التي تحكي قصة تلك الفترة من تاريخ دولتهم، والتي يبدوا أنها الفترة المستقرة والذهبية في دولة العيونيين، حيث اتخذ الأمير أبو علي الحسن بن عبد الله من القطيف عاصمة الدولة، واتسم هذا الحكم بالاستقرار طيلة مدة حكمه، عدا ما حدث في بداية عهده من تعرض جزيرة أوال لهجمات متعددة من حاكم قيس (وقيل في بعض المصادر كيش) أبي كرزاز بن سعد بن قيصر، حيث دارت معركة طاحنة في جزيرة سترة كانت الغلبة فيها للعيونيين، واسر فيها قائد الجيش نام سار بن سعد.. ومع ذلك فقد عفى عنه الأمير العيوني وأرسله إلى أخيه في جزيرة قيس، وصور ابن المقرب هذه المعركة بقوله:
ويوم سترة منا كان صاحبه لاقت به شامة والحاشك الرقما
ألفين غادر منهم مع ثمان مائي صرعى فكم مرصع من بعدها يتما
ويبدوا أن الأمير أبو علي الحسن عبد الله كان نبيل النفس..شهما كريما (أورد المؤلف العديد من القصص الدالة على هذه الصفات).
ثم يتطرق الباحث إلى نقود بلاد البحرين حتى منتصف القرن الخامس الهجري معتمدا في ذلك على مجموعة من الفلوس محفوظة في المتحف البريطاني، وأغلبها عثر عليها في القطيف، أوفي أنحاء المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية، وتتسم الفلوس التي تسك في البحرين بزيادة نسبة الرصاص فيها، يتضح ذلك من خلال المسكوكات التي سكت في البحرين في العهد الأموي والعباسي؛ وقد عثر في مدينة القطيف على مجموعة من الفلوس البرونزية، يرجع تاريخها إلى فترة الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور نقش في خلفها عبارة (بسم الله ضرب هذا الفلس بالبحرين سنة أربعين ومائة) راجع الكتاب ص77.
الفصل الثالث:
اشتمل الفصل الثالث على دراسة وصفية لنقود الدولة العيونية موضوع الدراسة البالغ عددها خمسون قطعة جميعها نادرة، لم ينشر عنها من قبل، وقد صنفها الباحث حسب تسلسلها التاريخي، ووصف كل ما يدور فيها من أشكال وزخارف كل قطعة لوحدها
ومن الواضح أن دار السك في البحرين كانت تعتمد بشكل رئيس على معدن الرصاص في إصداراتها النقدية، وذلك بتشكيل معدن الرصاص المخلوط بالنحاس أو البرونز على هيئة سبائك مربعة، يتم قصها على هيئة أقراص أو دوائر بعد سكها على أساس الطرز المختلفة، والتي تجاوزت عشرة طرز.
الفصل الرابع:
حمل الفصل الرابع دراسة تحليلية وفنية لمدن سك النقود العيونية – الخط وطرق تنفيذه – إضافة إلى العبارات والألقاب ودلالاتها.وناقش المؤلف (بحرفنة الحاذقين) العبارات الموجودة على هذه النقود وهي:
لا اله إلا الله محمد رسول الله.
علي ولي الله.
محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون.
الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد.
وقد التزم المؤلف في هذه الكتابة موضوعية وتجرد عن الذاتية، الأمر الذي أظهر دراسته بصفة العلمية، ناقش من خلالها آراء بعض الذين كتبوا عن ديوان ابن المقرب العيوني وشككوا في انتمائه لمذهب أهل البيت، وذلك عن طريق العبارات الموجودة على النقود.. ولا نود هنا إيراد جميع ما كتب عن العبارات، ونكتفي عن ذلك بتسليط الضوء على ما أورده الكاتب من ترجيح لفكرة معينة، فالكاتب وبعد كلام مستفيض عن عبارة (علي ولي الله) يصل الى القول:
(وفي ظل عدم توفر مصادر موثوقة تتضمن معلومات تدل على اعتناق سلاطين الدولة العيونية مذهب أهل السنة، فإن السكة تبقى المصدر الوحيد الذي يثبت أن أحكام الدولة العيونية كانوا يدينون بالمذهب الشيعي لاسيما وأن السكة تعد شارة من شارات الملك لا تخضع لأهواء عامة الناس، وانما تعكس التوجه المذهبي والسياسي للدولة، أو للحاكم الذي أمر بسكها، إن نقش عبارة (علي ولي الله) على نقود السلطان جمال الدنيا والدين الحسن بن عبد الله العيوني، لم تكن لإرضاء شعبه، وكسب ودهم، فهو لم يكن بذاك الضعف الذي يجعله (يقدم) على هذا الأمر، وإلا لنقش اسم الخليفة العباسي المقتفى لأمر الله حتى يكسب ود الخلافة العباسية ورضاها، ويأمن جانبها)
ويحدد الكاتب موقفه من الكتابات التي تناولت الدولة العيونية، وديوان ابن المقرب العيوني، ويبدي إعجابه بالدراسة، التي كتبها الدكتور فضل بن عمار العماري حيث عدها من أفضل الدراسات التي تناولت الاتجاه المذهبي لابن المقرب العيوني، بل وأكثرها جرأة في طرح هذا الموضوع.
وفي الواقع أن ما أعجب الشرعان، وصعقه هو توصل الدكتور العماري إلى نفس النتائج التي توصل إليها المؤلف، دون أن يكون لديه وثيقة(نقود الدولة العيونية) وهي الحقيقة التي حاول بعض الكتاب والباحثين لويها، أو الالتفاف عليها.
وحسما من قبل المؤلف للجدل الذي دار ويدور عن شيعية ابن المقرب العيوني، من عدمه، وكذلك على الدولة العيونية، يرى المؤلف (تأتي النقود وتضع حداً للجدل في الكثير من القضايا التاريخية، وهاهي نقود الدولة العيونية تظهر دليلا قاطعا يضع حدا للجدل القائم حول الاتجاه المذهبي سواء أكان لابن المقرب شاعر الدولة العيونية، أم لأفراد الأسرة الحاكمة التي ثبت أنهم يدينون بالمذهب الشيعي من خلال نقشهم عبارة (علي ولي الله) على نقودهم التي أثبت في الوقت نفسه أن الدولة العيونية دولة مستقلة استقلالا تاماً، لا تدين بالتبعية لأي خلافة أو دولة معاصرة لها.
بقلم: جعفر محمد العيد -مجلة الواحة العدد (29)