أجيال متعاقبة توارثوها وأعطوا الكويت شهرة عالمية
هجرة البحارنة إلى الكويت ونشأة صناعة السفن
على الرغم من منافسة كل من مسقط والبحرين وميناء لنجة للكويت في صناعة السفن تميزت الأخيرة عن غيرها من المشيخات العربية في منطقة الخليج بمكانة وسمعة لا تضاهى في حرفة صناعة السفن الشراعية بأنواعها المختلفة منذ المراحل المبكرة من نشأتها. فمعظم من اشتهر في تلك الحرفة هم القلاليف والأستادية أو ما يطلق عليهم «بالبحارنة». فكانت السفينة الوسيلة الوحيدة للسفر والغوص على اللؤلؤ وصيد الأسماك، والسبيل للحصول على المياه العذبة من شط العرب، والوسيلة لتأمين وتوفير مواد الغذاء اليومية من الهند والبصرة وموانئ جنوب غرب بلاد فارس، والطريقة للتجار لعبورالمحيطات للتبادل التجاري مع قارة جنوب شرق آسيا. كما كانت الوسيلة للحصول على السلاح وتأمين أهل الكويت من الطامعين بها، وهي الوسيلة لنقل الصخور من منطقة عشيرج ومواد البناء من مناطق الخليج الى المدينة لبناء السور والبيوت. وعلى ضوء الدور الذي
لعبته السفن في تاريخ الكويت الاقتصادي اتخذت السفينة الشراعية رمزا وشعارا للكويت. فقد قام اقتصاد الكويت منذ مراحله الأولى اعتمادا على السفينة الشراعية بدليل تسجيل الرحالة الأوربيين وممثلي الحكومة البريطانية أهمية تلك المهنة بشكل مباشر أو غير مباشر في مذكراتهم وتقاريرهم عند زيارتهم للكويت أو منطقة الخليج منذ منتصف القرن 18. وعلى الرغم من أن مثل هذه الدلائل التاريخية كثيرة، فانه يجب التطرق لبعضا منها وربطها مع الهجرة المبكرة لجزء كبير من البحارنة للكويت، للتدليل على ان تلك الحرفة مارسها البحارنة في فترة مبكرة من تاريخ الكويت وتوارثوها أبا عن جد، وليس كما يظن البعض بأن البحارنة زاولوها في وقت متأخر من تاريخ الكويت. وقد لا يخفى على المطلعين على التاريخ البحري الكويتي والحرف والمهن الكويتية المؤلفات القيمة للكثيرين، أهمها للدكتور يعقوب الحجي (صناعة السفن الشراعية في الكويت) وللأستاذ محمد جمال (الحرف والمهن والأنشطة التجارية القديمة في الكويت) التي وثقت أهمية حرفة صناعة السفن في تاريخ الكويت. هذه الدراسة المختصرة عبارة عن تسليط الضوء على نشأة صناعة السفن وارتباطها بنزوح البحارنة من البحرين للكويت. حيث استمرت تلك الحرفة قرابة القرنين من الزمن ووصلت حقبتها الذهبية في عهد أحمد بن سلمان الأستاد الذي أعطى الكويت شهرة محلية واقليمية وعالمية في النصف الأول من القرن 20.
اعتمدت هذه الدراسة على عدد من المصادر البريطانية منها وثائق محفوظة باللغتين العربية والانكليزية تخص أحمد بن سلمان الأستاد في الأرشيف البريطاني في المكتبة البريطانية في قسمAsian and African Studies، التي لم تناقش من قبل.
صناعة السفن الكويتية في مرحلة مبكرة
بالاضافة الى شهرة خور عبدالله كأحد أفضل الموانئ في الخليج، أشار بعض الرحالة الغربيون وممثلو الحكومة البريطانية، الذين عاصروا مراحل ليست ببعيدة عن نشأة الكويت، الى أهمية حرفة صناعة السفن، اما بعدد السفن الراسية في الميناء، او بالاشارة الى استيراد مواد بناء السفن من الهند ومسقط، او بالاطراء على أهمية مهارة الكويتين عن غيرهم في مثل تلك الصناعة في الخليج. فبدأت مثل تلك الدلائل مع كنيپهاوزن ونيبور عند توثيقهما عن القرين في بدايات النصف الثاني من القرن 18. فأشار الأول الى ان الكويت تمتلك 300 سفينة انذاك، بينما وصف نيبور سكان الكويت بانهم يعتمدون على صيد السمك واللؤلؤ، وان هناك اكثر من 800 سفينة لمزاولة النشاط البحري (انظر Travel Through Arabia, Niebuhr ترجمة Robert Heron vol 2 وسلوت، نشأة الكويت). وبغض النظر عن مدى صحة ودقة عدد السفن الموجودة في الكويت آنذاك واختلاف الروايتين، نستطيع ان نصل الى ان الكويت كانت تقوم بصناعة السفن منذ تلك الفترة على أقل تقدير وفقا لأقدم توثيق تاريخي، ولكن هذا لا يعني ان الصناعة لم تكن موجودة قبل ذلك التاريخ لوجود بعض العوازم منذ نشأة الكويت، الذين اشتهروا بركوب البحر. ومع بداية القرن 19 ظهرت تقارير وملاحظات بشكل أكثر عن الكويت بحكم اهتمام الأوروبين، خاصة البريطانيين، في السيطرة على منطقة الخليج. منها ما ذكره G. B. Brucks، في مذكراته التي سجلها ما بين 1835/1829 عن وجود 15 سفينة كبيرة من البغلة والدهو، تسع لحمل ما بين 100 و450 طنا، وكذلك 20 مركبا من نوع البتيل والبغلة تسع ما بين 50 و150 طنا، وأخيرا ما يقارب 150 مركبا تجاريا تسع لحمل ما بين 15 و150 طنا، تعبر في الخليج والبحر الأحمر وشواطئ السند وغجرات وماليبار وبومبي. (انظر، Arbian Gulf Intelligence, Brucks). كذلك ذكر J. F. Jones وآخرون في تقريرهم عن القرين في عام 1839 أن «لوح خشب الساج لبناء السفن تزود (للكويت) بشكل عام من الهند، بالاضافة الى نوع آخر من الخشب القوي لاستخدامه لذراع وأضلاع المركب تجلب من مسقط» (انظر تقرير Arabian Gulf Inteligence, Jones). أما A.B Kemball فقد أشار في مذكرته الصادرة عام 1845 الى ان القرين تمتلك 31 سفينة من نوع البغلة والبتيل للتجارة مع الهند، وما يقارب 50 سفينة بحجم أقل موظفة للتجارة حول شواطئ الخليج، و350 سفينة تشارك في صيد السمك والغوص على اللؤلؤ.
(انظر Arabian Gulf Intelligence, Kemball). كذلك ولأول مرة تطرق أحد البريطانيين، وهو L. Pelly، لمهارة سكان الكويت في صناعة السفن عند زيارته للكويت في ما بين عامي 1863/1865، عندما صرح بان «الكويتين لديهم تجارة كبيرة وربما يعتبرون أفضل صانعي السفن في جميع أنحاء الخليج».
(انظر Roport Of A Journey To The Wahabee, Lewis Pelly). لذا نستخلص انه منذ منتصف القرن 18 ـــــ حسب بعض المصادر المتوافرة ـــــ ان الكويت كانت تصنع السفن وان مثل تلك الحرفة استمرت قرابة القرنين منذ أول توثيق ذكر آنفا.
نزوح البحارنة إلى الكويت وارتباطهم بنشأة صناعة السفن
تشكلت مجتمعات المشيخات العربية، بما فيها الكويت، من طوائف مختلفة وأعراق متباينة تحمل عادات ولغات وثقافات وممارسات اجتماعية متنوعة وفقا للهجرات الديناميكية المرتبطة بنظرية الهجرات «الجذب والطرد». فعدم وجود أي ترسيم حدودي ما قبل الربع الثاني من القرن 20، والتقارب الجغرافي والتبادل التجاري أعطت مساحة للتنقل بسهولة في منطقة الخليج اما بريا عبر القوافل او بحريا عبر السفن، خصوصاً ان منطقة الخليج اعتبرت مركز اتصال للشعوب المختلفة منذ عصور التاريخ القديم كونها منشأ لحضارات مختلفة من جانب ومركزا لموانئ مشهورة عديدة على الساحلين الغربي والشرقي للخليج من جانب آخر. وفي ضوء الظروف السياسية القلقة وتقلب الأوضاع الاقتصادية واستمرار المشاكل الاجتماعية ونشوب الخلافات الدينية للمنطقة تنقلت قبائل وطوائف وأسر من موطنها الأم الى مناطق اخرى أكثر هدوءا وامانا بعيدا عن تلك الظروف الطاردة. وهذا ينطبق تماما على تشكيل الكويت منذ نشأتها، فهاجرت اليها مجاميع مختلفة بما فيها أسرة الصباح وفقا لأحد الظروف المذكورة. لذلك لا نستغرب هجرة جزء كبير من البحارنة وغيرهم الى الكويت في وقت مبكر من تاريخ الكويت كما تشير الوثائق والتقارير والتي ارتبطت معها صناعة السفن منذ ذلك الوقت. فالبحرين هي واحدة من أكثر المناطق التي تعرضت لقلاقل سياسية حتى قبل قدوم أسرة آل خليفة لحكم البحرين في عام 1783. والدليل على ذلك تقرير نيبور عند زيارته لجزيرة خرج وتسجيل مذكراته في 1765 يدلل على وجود البحارنة في جزيرة فيلكا، فيقول نيبور كما ترجمه سلوت «وإلى الشمال قليلا توجد جزر عدة غير مأهولة وبالقرب من مدينة القرين توجد جزيرة مأهولة تماما، هي فيلكا او فيلچة (بالهجاء المحلي) وهي للعرب، ويسميها دانڤيل Peluche ومعظم سكانها أصلا من البحرين، وفي الوقت الحاضر ما زالوا يعيشون أساسا على صيد اللؤلؤ في «المغاصات الموجودة» قرب تلك الجزيرة» (انظر سلوت، نشأة الكويت). ولا نعتقد هنا ان البحارنة هجروا موطنهم البحرين تاركين بساتينها الخضراء وأهميتها كمركز حضاري وتجاري للنزوح للكويت التي تعتبر أرضا جرداء تفتقر لأبسط المكونات الطبيعية للعيش كالماء والغذاء الا بوجود عوامل طرد أجبرتهم على ذلك. ونحن هنا لا نستبعد بوجود البحارنة في مدينة الكويت أيضا وذلك عندما نربطها بالتقارير الأوروبية السالفة التي دللت على أهمية صناعة السفن في الكويت. بل ان عام 1783 هو سنة مفصلية لحركة الهجرات في البحرين لان الكثير من البحارنة وغيرهم لم يتقبلوا النظام
السياسي الجديد ففضلوا الهجرة من موطنهم بسسب ما تعرضوا له من مضايقات. ولندلل على ذلك فقد ذكر Kemball في مذكراته عام 1845عند وصفه لأوضاع البحرين الداخلية بانها تزداد سوءا، لذلك فان الكثير من الناس والتي كان أغلبهم من الأغنياء فروا مع بداية ظهور العداوات بين حكام المنطقة الى الكويت ولنجة وأماكن اخرى في الساحل الفارسي لترقب الأوضاع والرجوع فور وجود معالم الأمن والسيطرة الحكومية على حياة الناس وأملاكهم. ثم يذكر في التقريرنفسه ان ميناء الكويت آنذاك استفاد من الاضطرابات الداخلية والعداوات في جزيرة البحرين (انظر ،Araboan Gulf Intelligence, Kemball). لذلك لا نستبعد ان هجرة البحارنة بدأت منذ منتصف القرن الثامن عشر- كما دلل نيبور- واستمرت على شكل موجات من الهجرات المتعاقبة – حسب الظروف- حتى القرن 20، وانهم اختاروا الا يرجعوا الى البحرين بعد تجربتهم الحياة في الكويت. ونجد هنا أفضل مثال على ذلك هو سلمان الأستاد المولود في عام 1840 والذي اعتبره د. الحجي أحد أعمدة جيل المخضرمين في المنتصف الثاني من القرن نفسه. واذا ربطنا اشارة بيلي في تقريره عن مهارة الكويتيين في صناعة السفن فيما بين عامي 1863 و1865، لا نستغرب ان سلمان كان أحد المقصودين وخصوصا ان الأخير أصبح بالعقد الثاني من عمره، أي شعلة من العطاء والنشاط لتلك الحرفة.
ومن المعروف ان البحارنة ينقسمون الى ثلاث مجموعات حرفيين وفلاحين وتجار. حيث اشتهر الحرفيون منهم بصناعة السفن وقد دلل lorimer في بداية القرن 20 على ذلك عندما تطرق لمنطقة سنابس الواقعة على الشاطئ الشمالي في البحرين بين مدينتي المنامة وقلعة العجاج، ومنطقة النعيم التي اشتهرتا تاريخيا بصناعة السفن واعتبرتا أيضا أحد مواطن العوائل الكويتية من أصول بحرينية. كما ركز لوريمر على ان البحرين كانت ذي شهرة في صناعة السفن على مستوى الخليج حيث قامت ما بين عامي 1903ـ 1904 بتصدير وبيع ما يقارب 130 سفينة لقطر والساحل المتصالح (انظر Gazetter Of The, Lorimer Persian Gulf Vol 2 Geographical And Statistical ومقابلة مع حمزة الأستاد، في عام 2011). لذلك لانستغرب شهرة البحارنة بصناعة السفن في البحرين منذ عقود مبكرة من تاريخها نظرا لاشارة لوريمر في مرحلة لاحقة، ولتميزها كمركز لتجارة اللؤلؤ لعقود زمنية طويلة. وعلى هذا الضوء نلاحظ ان اختيار البحارنة لمناطقهم الجديدة تكيفت مع طبيعة عملهم الأصلي. فنجد ذوي الحرف منهم اتجه الى الكويت وميناء لنجة بينما الفلاحون اختاروا كلا من المحمرة والاحساء والبصرة كوجهة، كونها تحتوي على أراضٍ زراعية خصبة يستطيعون أن يمارسوا حرفتهم – التي اكتسبوها منذ القدم – في تلك المناطق الجديدة. ومع العلم ان الكويت كانت أكثر منطقة أمانا من غيرها كما كان حكامها وسكانها أكثر تسامحا من الغير، نجد ان الفلاحين من البحارنة لم يختاروها لسبب عدم تناسبها ومهارتهم الفلاحية، كون الكويت أرض جرداء لا زراعة فيها الا في بعض المناطق التي لا تعيل حتى أهلها. لذلك اشتهر البحارنة المستقرين في الكويت بحرفة صناعة السفن دون غيرها، بينما عرف عن البحارنة المهاجرين الى المحمرة والاحساء والبصرة بحرفة الفلاحة
(يتبع)
محمد ابراهيم الحبيب، طالب دكتوراه، قسم التاريخ، كلية رويال هولووي، جامعة لندن
فن صناعة السفن اشتهر في الكويت على مستوى دول الخليج
وثيقة تاريخية من حاكم الكويت أحمد الجابر إلى احمد بن سلمان الاستاد عام 1350هـ
بعض أبناء البحارنة
صناعة البوم مرتبطة بالقلاليف