قبل ان أدخل في تفاصيل الموضوع استميح الاخ العزيز الأستاذ حسن الوردي عُذراً لأعقب على بعض النقاط التي وردت في الموضوع الذي نشره قبل فترة حول "رياح البارح" وتناول فيه (استغلال رياح البارح الشمالية لتسيير السفن الشراعية من الخليج الى سواحل إفريقيا لجمع الأخشاب والتوابل، وإذا ما سكنت الريح يستخدم البحارة المجاديف للوصول بالسفن الى الساحل)
في هذا التعقيب لن أتطرق لموضوع تجارة الرقيق وكيفية استدراج الأفارقة الي هذه السفن بل سأتناول النقاط التالية:
في البارح لا تتحرك السفن الشراعية بين بلدان الخليج والسواحل الشرقية لأفريقيا و سواحل الهند الغربية.
في سفن السفر الشراعية لا تُستخدم المجاديف مطلقاً.
الأخشاب يتم شراؤها من متعهدين أو من السكان مباشرة سواء من إفريقيا أو من الهند أما التوابل فمصدرها الهند إلا ما ندر.
قد يقول قائل: إذاً تتوقف الحركة التجارية بين بلدان الخليج!! أقول الكلام حول سفن السفر الشراعية الكبيرة التي تعمل بين بلدان الخليح و الساحل الغربي للهند والساحل الإفريقي الشرقي، هذه السفن يعمل على ظهورها في المتوسط ما بين 40 الى 90 بحاراً.
هذه السفن تتوقف طيلة فترة الصيف وسياتي تفصيل ذلك في عرض الموضوع.
أما الحركة التجارية وحركة المسافرين بين ضفتي الخليج الشرقية والغربية فهي مستمرة طيلة فصول السنة.
التفاصيل:
البارح يتكون من ثلاثة طوالع و الطالع لدى أهل البحر في الخليج يعني الفترة الزمنية التي تساوي 13 يوما و ثمان ساعات سواء جاءت في الصيف أو الشتاء أو أي فصل آخر و أهل البحر يطلقون عليها "ضربة" إذا كانت تأتي بالرياح فيقال: "ضربات الشتاء" و ضربات "البارح" و إذا اشتدت الريح يقولون: "الهواء ضربة".
الطالع الأول من طوالع البارح – "طالع الثريا":
و البحاحير في الدير ينطقونها "الفْرَيا" و هي من 7 يونيه إلى 20 يونيه و هنالك قول أو مثل لدى أهل البحر مرتبط "بالثريا" و هو يتعلق بالرطب "راوني الفريا "الثريا" و أراويك لون" أي إذا طلعت الثريا في السماء من جهة الشرق تبدأ الألوان تظهر في ثمر النخيل "البسر" فالأحمر يقال له "مْحَمُّر" و الأصفر يقال له "مْصَفُّر" -و هذا الكلام كان أيام زمان عندما كان الترطيب طبيعيا أما اليوم في زمن التعطيش فالنخيل ترطب قبل الأوان- و أسبق النخيل "الماجي" و لون بسرته حمراء طويلة و بسرة الماجي تميل للمرارة و لا تكون لذيذة إلا إذا أكتمل ترطيبها و ما ينفعها و يجعلها مطلوبة أنها تأتي في أول الموسم.
الطالع الثاني من طوالع البارح – "طالع الدبران":
من 20 يونيه – 3 يوليه، و سمي بالدبران لأن النهار يبدأ بالتراجع و يأخذ في القِصر و كأنه يرجع على أدباره فيقال: "دَبَّر النهار" حيث ينتهي طول النهار و بعد 3 أيام من دخول الدبران يبدأ الليل في الزيادة، و هو النجم المتوسط من نجوم البارح.
الطالع الثالث من طوالع البارح – "طالع الهقعة":
من 3 يوليه – 16 يوليه، و أهل البحر يسمونها "الجوزاء" و بحارة الدير يسمونها "الجوزة" و فيها يكثر الرطب، كما تسكن الريح فيها ليلاً و خاصة في أيامها الأخيرة و يقول البحاحير: "تعشي" و كان بحاحير الدير الذي يبحرون في فشت الجارم يستغلون هذه الفترة "سكون الريح" و يتوجهون قبل المساء إلى الجارم و يطرحون حتى الصباح ليقوموا بمباراة القراقير و تعني (( إخراج القرقور من البحر و أخذ ما فيه من أسماك ثم عماره(( أي وضع الحشيش أو أي طعم آخر بداخله)).
و ما يميز (الجوزاء "الجوزة") كثرة الغبار حتى أن الغواصين يضطرون لضرب الهاونات كنوع من التحذير حتى لا تصطدم السفن بعضها ببعض بسبب ضعف الرؤية – لقد سمعت ذلك من عدد غير قليل من الغواصين و منهم الوالد (رحمه الله) و قد كان غيصاً في سفينة الجد المرحوم الحاج حماد بن أحمد بن حماد و إسمها (الموتر) و هي من نوع (الجالبوت).
و في البارح تكون الرياح شمالية جافة شديدة السرعة إلا إذا فسدت الضربة(( الطالع )) كما يقول البحاحير.
و عند إشتداد الريح تلجأ السفن إلى بعض البنادر حتى تسكن الريح و من هذه الملاذات فشت الجارم و هو من البنادر التي يعرفها أهل البحر من الغواصين و الصيادين و سفن البضائع و يقع هذا الفشت على بعد 11 ميلاً بحرياً بإتجاه الشمال الغربي (345 درجة) على البوصلة من فرضة رأس "ريا" في سماهيج. و الميل البحري يساوي 1852 متراً و يلجأ إلى الجارم الغواصون الذين يغوصون في المغاصات (الهيارات) الشمالية و الشمالية الشرقية مثل: شتيا، الميانة، أبو عمامة، شڰته (شقته)…
و فشت الجارم الذي يختزل في ذاكرته مساحة واسعة لتاريخ البحرين البحري، هذا الفشت الذي مرت به و توقفت عنده الآلاف المؤلفة من السفن من مختلف الأحجام و الأشكال و الأغراض عبر الزمان.
فشت الجارم الذي عرفه الغواصون من أقدم العصور كملاذ آمن عندما تشتد الريح و عرفه البحاحير من عدة مناطق و خاصة أهل الدير كمصيد من المصائد التي يرتادونها ها هو يلفظ أنفاسه الأخيرة ليصبح بعد مدة أثراً بعد عين!!!!!
و بمناسبة الكلام عن فشت الجارم هنالك مثل يقول: (حاسبين عليه في الغوص و هوه في الجارم) و يقال هذا المثل لمن يُكَلف بمهمةٍ أو عمل ما و بعد فترة يرونه محله لم يبادر لإنجاز ما كُلِف به!!!
و من الملاذات المهمة للسفن القادمة من جهت الشرق و للغواصين الذين يغوصون في المغاصات الشرقية (فشت الديبل) و يقع على بعد 11 ميلاً بحرياً بإتجاه الشرق (92 درجة على البوصلة) من فرضة رأس ريا بسماهيج و قد أصبح فشت الديبل تابعاً لدولة قطر بعد صدور حكم محكمة "لاهاي" لترسيم الحدود بين دولة قطر و دولة البحرين 16 مارس 2001م و قد حولته دولة قطر إلى محمية بحرية!!! و شتان شتان!!!
البارح و السفر الشراعي:
إنَّ سفن السفر الشراعي لا تغادر أماكنها في فترة البارح و لا في فصل الصيف مطلقاً، فعملها ينتهي في شهر إبريل من كل عام و يتم تجديفها و تغطيتها عن الشمس بالحصر و الخياش حتى شهر سبتمبر و السبب أن فترة الغوص الكبير في الخليج تبدأ في شهر مايو و تنتهي في شهر سبتمبر و بذلك يكون غالبية البحارة و النواخذة منشغلين في الغوص و بعد إنتهاء فترة الغوص الكبير في شهر سبتمبر يبدأ تجهيز سفن السفر الشراعي و معظمها من الأبوام الكبيرة و بعض "البغال" حيث تتم عملية صيانتها عن طريق "القلاليف" ثم دهنها "بالودج" للجزء الغاطس من السفينة "و الصل" للجزء العلوي منها، كما تُجهز الأشرعة و المؤونة. و قبلها أختيار رئيس البحارة "المقدمي" ثم أختيار البحارة المهرة عن طريق ((المقدمي)) و باللهجة المحرقية "المجدمي" و معظم بحرية سفن السفر هم من العائدين من رحلة الغوص.
و في شهر أكتوبر تنطلق هذه السفن بعضها يتجه للبصرة لتحميل التمر من المزارع و ما أدراك ما البصرة في ذلك الزمان حتى قيل "إليّ ما يشوف البصرة يموت حسرة" و إذا ما هبت رياح " السهيلي" جنوبية غربية اقلعت هذه السفن متوجهة الى الهند، و البعض الآخر يتجه الى سواحل افريقيا الشرقية.
من الهند يتم شراء العيش و السكر و الشاي و القهوة و الهيل و البهارات و البقوليات و الزيوت و خشب (( الساج )) الذي تصنع منه السفن، كما يشترون الاقمشة و بضائع أُخرى.
و من سواحل افريقيا الشرقية يتم شراء الاخشاب اللآزمة للبناء و المتمثلة في (( الدنچل )) أو (( الچندل )) حسب اختلاف اللهجات. و كذلك البمبو (( البامبو )) و يستخدم لسقوف في المباني القديمة كما ترتاد هذه السفن موانئ اليمن و بعضهم وصل إلى بور سودان للشراء و البيع.
و في طريق العودة تتوقف هذه السفن في بعض الموانئ الخليجية و خاصة في عمان حيث يُبرق نواخذة هذه السفن إلى ملاكها عن قرب وصولهم، كما يتم شراء بعض البضائع و على رأسها ((اللومي الأسود المجفف)) و هنا لابد من الإعتراف بأن نواخذة الكويت كانوا هم المتسيدين في قيادة سفن السفر الشراعي في الخليج وقد برزت منهم اسماء لامعة و اسر عريقة في هذا المجال حيث برز منهم "ربابنة" اعترف لهم قادة البحر الانجليز بالبراعة و المهارة. و المراجع البحرية مليئة بهذه الاسماء.
و لا بد من وقفة لذكر أصحاب الفضل في تطور أسطول السفر الكويتي إنهم القلاليف البحارنة الذين هاجروا من البحرين ليحملوا معهم أسرار هذه المهنة العريقة التي عرفها أبناء هذه الجزر قبل آلاف السنين. في الكويت وجدوا الرعاية و الإهتمام و الدعم فأبدعوا أنواعاً من السفن و على رأسها الأبوام (( مفردها بوم )) و هي النسخة النموذجية لعبور البحار كما نقل هؤلاء البحارنة صناعة السفن إلى قطر و الإمارات.
أفول نجم السفر الشراعي:
في أواخر الأربعينيات و مطلع الخمسينيات من القرن الماضي بدأت التجارة بواسطة السفن الشراعية تضمحل بحيث لم يبق منها إلا القليل و ذلك لعدة أسباب منها:
إنصراف البحارة للعمل في شركة النفط و كذلك في الدوائر الحكومية و عزوفهم عن ركوب البحر لما فيه من مصاعب و متاعب و قلة دخل.
التغيير الذي طال مواد البناء فحل المربع محل "الدنچل" أو "الچندل" كما حل "البليود" أو "البليوت" –بالدارجة- محل "البامبو" "البمبو" و المناقير كما حل الأسمنت محل الطين و الجص و دخل البناء المسلح.
توسع الموانيء و دخول السفن البخارية الكبيرة بكثرة بعد الحرب العالمية الثانية بعد أن أصبحت البحار و المحيطات آمنة مما جعل السفن الخشبية غير قادرة على المنافسة.
أما النواخذة و بعض ملاك تلك السفن فقد تكيفوا مع الواقع الجديد الذي فرضه الزمان و دوراته حيث عمل كثير منهم في التجارة.
و كثير من هذه السفن اشتراها التجار الإيرانيون و استبدلوا الأشرعة بمكائن و لازال الكثير من هذه السفن يعمل بين موانيء الإمارات –و خاصة دبي- و بين الموانيء الإيرانية، و بعضها الآخر رُكن على السواحل لتقضي عليه صروف الدهر و عوادي الزمن.
شكرا للكويت:
على الرغم من كون الكويت حديثة النشأة إذا قورنت بتاريخ البحرين العريق إلا أنها إمتلكت إسطولاً تجارياً ضخما من السفن الشراعية بلغ عددها 850 سفينة في عام 1910 م، كما أهتمت دولة الكويت إهتماما بالغا لأمور التراث البحري بمختلف جوانبه مثل (السفر – الغوص – نقل الماء- صناعة السفن – صُناع السفن "القلاليف" – صُناع الأشرعة – أشهر النواخذة – أشهر المقادمة – أشهر الغاصة – أشهر النهاهيم – و حتى الكوارث البحرية) تجد كل ذلك موثقاً عبر عشرات الكتب و التسجيلات التلفزيونية مع نواخذة السفر و الغوص أجراها تلفزيون الكويت في ستينيات القرن الماضي مع عدد كبير من النواخذة الذين لا زالوا أحياء في تلك الفترة كما حافظت دولة الكويت على نماذج من السفن التي كانت تستخدم في الماضي مثل: البوم – السمبوك – البتيل – الجالبوت – الشوعي، و هي موجودة في بحيرة قرب النادي العلمي.
و في الكويت تم تخصيص مكان أطلق عليه قرية "يوم البحار" و هي قرية تراثية تقع في مدينة الكويت على شارع الخليج العربي مقابل مجلس الأمة. و من أشهر سفن السفر الشراعي في الكويت و التي لازالت موجودة حتى اليوم:
بوم "المُهلب" للتاجر المرحوم محمد ثنيان الغانم.
بوم "فتح الخير" لعائلة العثمان، و قد مثل الفنان عبدالحسين عبدالرضا جزء من مسلسل "الإسكافي" على ظهر أحد هذه الأبوام و لعله "فتح الخير" الذي رُكِبت له "مكينة".
بغلة الهاشمي" في مدخل فندق رادسون بلو في العاصمة الكويت و قد حُوِّلت إلى مطعم.
نفثة محزون:
عندما يُفتش من يريد أن يكتب شيئاً عن التراث البحري للبحرين و خاصة –تاريخ السفر الشراعي- فإنه يصاب بصدمة و غصة و ألم و حزن شديد لعدم وجود مراجع حول هذا السفر.
هنالك بعض المراجع عن الغوص و سفن الغوص و أشهر نواخذة الغوص و لكنها –و للأسف- خاصة بطائفة معينة، و لا ذكر للمناطق الأخرى!!!
سؤال يُطْرح: أين ذهب الإسطول التجاري لجزر البحرين؟؟!!
أرض الخلود أرض الملوك و جنة الآلهة التي ورد ذكرها في الكتابات المسمارية القديمة في الألفية الثالثة قبل الميلاد، هذه البلاد التي أرتبطت بعلاقات وثيقة مع السومريين و الآشوريين و الآكاديين. هذه البلاد التي يقول كثير من المؤرخين الأجانب أنها مهد الفينيقيين الذين سكنوا ساحل البحر المتوسط "بلاد الشام". بلاد تاريخها الحضاري يتجاوز الخمسة آلاف عام هل يعقل أن لا تمتلك أسطولاً بحرياً تجارياً؟؟!!!
هذه البلاد التي عرفت صناعة السفن منذ آلاف السنين و قد ذكر طرفة بن العبد البكري – و هو شاعر جاهلي بحراني من شعراء المعلقات، إسمه طرفة بن العبد بن سفيان بن سعد، من بني قيس بن ثعلبة من بني بكر بن وائل. ولد حوالي سنة 543 ميلادية و قتل سنة 569 م و هو في السادسة و العشرين من عمره بأمر من عمر بن هند ملك الحيرة و لقب بالشاب القتيل و له معلقة تجاوزت المئة بيت و مطلعها:
لخولــــــــة أطلال ببرقــــة ثهمــــــــد تلوح كباقي الوشم في ظـــاهر اليـــــــد
ومن ابياتها بيت يصف فيه الناقة و يشبهها بالسفينة و يذكر فيها إسم القلاف وهو "ابن يامن" يقول:
عدوليـــــــةٌ أو من سفين "ابن يامـــنٍ" يجورُ بها المــــلاح طـــوراً و يهتـــــدي
عدولية: نسبة إلى مكان في البحرين تصنع فيه السفن أو نسبة إلى أحد صانعي السفن كما جاء في (قاموس المعاني) و (المعجم الوسيط).
إذاً ماذا جرى لهذا الإسطول و لتراث البحرين البحري؟؟؟!!!
هل تم تدميره من خلال الغارات التي كانت تُشَن على هذه البلاد؟؟!! هل نُهِبت أو أُحرقت تلك الكتب و الوثائق من خلال الغزوات المتكررة و المجازر التي طالت الفقهاء و العلماء و المكتبات و التدمير الذي طال الحوزات العلمية؟؟!!
هل سيأتي اليوم الذي يستطيع فيه الباحثون المتخصصون الحريصون على تراث هذا الوطن الغالي من العثور على هذا الكنز المفقود؟؟!! و إيجاد إجابه شافية لكل هذه التساؤلات نسال الله ذلك.
و قمة الحزن أن تُؤَد صناعة السفن – كما وئد غيرها من الصناعات- و هي كانت موجودة قبل بضعة عقود لتضيع كما ضاع تراث البحرين الأصيل!!!!.
"أبو صادق"
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع :
نواخذة السفر الشراعي في الكويت – تأليف: الدكتور يعقوب يوسف الحجي. ط 2 – 1993م.
تاريخ الغوص على اللؤلؤ في الكويت و الخليج العربي ج 1 – المؤلف سيف مرزوق الشملان – ط 1، 1975م.
التوقيت البحريني، إعداد أبناء المرحوم محمد عبدالله حسن عاشير، "وزارة الإعلام".
التوقيت القطري – لعام 1436 هـ 2015 م، وزارة الأوقاف و الشؤون الإسلامية- "إدارة البحوث و الدراسات"، دولة قطر.
10 يونيو 2015م
"أبو صادق"
بقلم إبراهيم حسن إبراهيم صالح – قرية الدير