![]() ورجّح الدكتور الشريف عصام الهجاري أنّ جعفر بن محمد الذي نقش هذه الكتابة على الصخرة هو الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام.
ولكن شكك البعض في ذلك، واستبعد بلا دليل ولا حجة أن يكون جعفر بن محمد ناقش الكتابة هذه هو الإمام الصادق عليه السلام.
وقد كتبتُ أوّلاً في الردّ عليه على جهة الاستعجال ما يلي:
((كان العرب من سيرتهم نقش أسمائهم وبعض أفكارهم وأقوالهم على الصخور منذ سحيق الأزمان قبل الإسلام وبعده، وقد وُجِدَت الكثير من كتاباتهم هذه، فلا عجب أن يكتب الصادق عليه السلام ذلك، ولا سيما أن محتواها يحمل نفَس وأسلوب أقواله وأحاديثه ولا سيما التي في وصاياه.
واكتفى باسمه واسم أبيه لشهرته بهما في ذلك الزمان، ولعله لم يُعرف في الحجاز بل وفي غير الحجاز في سنة ١١٠ رجل اسمه جعفر بن محمد يمكن أن يصدر منه هذه الوصية بهذا الأسلوب إلا الصادق عليه السلام)).
ورأيتُ بما أن هذا النقش من الأهمية بمكانٍ بالنسبة للتاريخ عموماً وللمذهب خصوصاً كوثيقة وحجة تاريخية تتعلق بالإمام الصادق عليه السلام أنْ لا أكتفي بما كتبتُه عنها سابقاً، وأنه عليّ أن أبحث عن مدى صحة أن يكون جعفر بن محمد ناقش الكتابة في زمان حياة الصادق عليه السلام هو نفسه الصادق عليه السلام، فاتجه نظري إلى دراسة متن نفس محتوى المكتوب بهذا النقش الذي هو وصية للمؤمنين، كيما أتثبّت في الكشف عن كم هو مقدار أن تكون جمل وفقرات هذه الكتابة متناسبة مع أسلوب الإمام الصادق عليه السلام في الحديث وكم درجة تطابقها مع لحن كلامه الذي نقله لنا الرواة من معاصريه، وهل أن محتواها يتلائم مع ما نقله لنا هؤلاء الرواة عنه وعن أهل البيت عليهم الصلاة والسلام.
فإليك أيها القارئ الكريم هذه الدراسة المختصرة التي لربما يتفاجأ البعض جرّاء نتيجتها بمقدار التطابق بين هذه الكتابة المنقوشة على الصخرة وما روي من أحاديث وأقوال للإمام الصادق خصوصاً ولأهل البيت ـ عليهم الصلوات والتسليمات ـ عموماً، وبعد ذلك لك الحكم في صحة أن يكون جعفر بن محمد ناقش الكتابة هو جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام أو غيره.
قوله: ((أوصي كل مؤمن بتقوى الله والعمل بطاعته)):
بنفس هذا النص على الوصية بتقوى الله والعمل على طاعته، وصَّى جعفر بن محمد الصادق عليه السلام نفراً من شيعته الكوفيين، فقد روى القاضي أبو حنيفة النعمان في (دعائم الإسلام ٥٦/١) ما نصه: ((وروينا عن أبي عبد الله جعفر بن محمد صلوات الله عليه أن نفراً أتوه من الكوفة من شيعته يسمعون منه، ويأخذون عنه، فأقاموا بالمدينة ما أمكنهم المقام، وهم يختلفون إليه، ويترددون عليه، ويسمعون منه، ويأخذون عنه، فلما حضرهم الانصراف وودعوه، قال له بعضهم: أوصنا يا بن رسول الله، فقال: أوصيكم بتقوى الله، والعمل بطاعته…)).
فجعفر بن محمد عليهما السلام كما وصى النفر من الشيعة الكوفيين بهذه الفقرة، فلا عجب لو كتبها ضمن وصيته لعامة المؤمنين التي نقشها على الصخرة.
قوله: ((والرضى بقدره)):
بمثل هذا النص رواه زيد الزراد في أصله (الأصول الستة عشر: ١٢٤) عن جعفر بن محمد الصادق عن جدّه علي بن أبي طالب عليهما السلام، ورواه أيضاً الكليني في (الكافي: ٥٨١/٢) بسنده عن علي بن الحسين عن جدّه علي بن أبي طالب عليهما السلام، أنه كان عليه السلام يقول: ((اللهم مُنَّ عليَّ بالتوكل عليك، والتفويض إليك، والرضا بقدرك)).
فجملة ((والرضى بقدره)) قد أخذها جعفر بن محمد الصادق مما رواه عن جده علي بن أبي طالب عليهما السلام: ((والرضا بقدرك)).
قوله: ((والصبر على بلائه)):
لم نجد هذا التعبير عند أي أحدٍ من السلف السابقين لجعفر بن محمد الصادق عليهما السلام أو معاصريه أو مقاربي عصره سوى في خبر واحد روي عن كعب الأحبار في النبي أيوب ـ عليه السلام ـ، غير أنه تعبير قد استعمله أهل البيت عليهم السلام، فهذا علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ استعمله في جوابه على وصية النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ له حين قال: ((الحمد لله شكراً على نعمائه، وصبراً على بلائه))، وكذلك استعمله في وصيته لابنه الحسين ـ عليه السلام ـ حين قال له وهو يوصيه: ((يا أبا عبد الله أنت شهيد هذه الأمة، فعليك بتقوى الله والصبر على بلائه))، وورد أيضاً منهم ـ عليهم السلام ـ هذا التعبير في غير ما ذكرنا، ولم أعثر بعد التتبع أن العامة قد رووا هذا التعبير عن الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ، فهو من مختصاتنا وهو من تعبيرات النبي وأهل بيته، وليس عند سواهم في زمان الإمام الصادق عليه السلام وقبله وقريب منه استعمال له، ونلاحظ أنهم عليهم السلام استعملوه في حالات الوصايا، وهو ما يتطابق مع كون نقش هذه الكتابة من الصادق عليه السلام على الصخرة وصيةً كتبها للمؤمنين.
قوله: ((والشكر على عطاه)):
هذا تعبير لا خلاف على أن معناه قد ورد عن جعفر بن محمد الصادق وعن سواه من أهل البيت عليهم السلام، ولكن يصطدم بإشكال لغوي صرفي، فقد يقال لو كان جعفر بن محمد ناقش كتابة هذه الوصية على الصخرة هو جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام لكتب ((والشكر على عطائه))، فإن الفصيح (عطائه) وليس (عطاه) لأن مصدره وهو (العطاء) ممدود الآخر، فـ(عطاه) أما ملحون أو غير ملحون ولكن دون الفصيح من القول.
والجواب:
إنه لا يمكن عدّه من الملحون أو دون الفصيح وذلك للتالي:
أولاً: إنه يوافق المقرَّر في اللغة، فقد قال أبو الطيب الوشاء( ت٣٢٥هـ) في (الممدود والقصور/ ٣١) ((وقد يجوز قصر الممدود، ولا يجوز مدّ المنقوص)).
ثانياً: قد تكلم به إمام معصوم وشاعر من أعاظم الشعراء الفحول الذين يحتج بشعرهم علماء العربية.
فقد روى ثقة الإسلام الكليني في (الكافي ٥٢/٨) رسالة وصية الإمام الباقر عليه السلام لسعيد الخير، وجاء فيها: ((واعلموا أن الله تبارك وتعالى الحليم العليم إنما غضبه على من لم يقبل منه رضاه، وإنما يمنع من لم يقبل منه عطاه)).
وقال جرير (المتوفى سنة ١١٠هـ وهي نفسها سنة نقش جعفر بن محمد لوصيته) راثياً عبد العزيز بن مروان بن الحكم:
فيومٌ تحوط المسلمين جياده
ويوم عطاه ما تغب نوافله
فلا غرابة من جعفر بن محمد عليهما السلام لو استعمل ((عطاه)) بدل ((عطائه)) وقد سبق أن استعمله قبله والده، واستعمله معاصره الشاعر الكبير جرير، وهما الحجتان في اللغة.
كذلك لا غرابة من جعفر بن محمد عليهما السلام لو نقش كتابة جملة ((والشكر على عطاه)) في وصيته للمؤمنين كما أوصى بمثلها أبوه الباقر عليه السلام لسعيد الخير بجملة ((لم يقبل منه عطاه)) حيث أن تمام قبول عطا الله هو بشكرها، فالتعبير متماثل والغرض وهو الوصية متطابق.
قوله: ((والتوكل عليه)):
استعمال القرآن وكافة المسلمين لهذه الجملة تغنينا عن إثبات أن جعفر بن محمد عليهما السلام كان يستعملها في أحاديثه.
ومن هنا، فقد اتضح لنا أن جمل محتويات الوصية المنقوشة على الصخرة للمؤمنين هي مما كان يتحدث بها جعفر بن محمد عليهما السلام، وبعضها من مختصاته ومختصات أهل البيت عليهم الصلاة والسلام، الأمر الذي يوثق بالإطمئنان أن جعفر بن محمد ناقش كتابة الوصية للمؤمنين ليس إلا جعفر بن محمد عليهما السلام.
هذا، ولم يحدد التويجري موقع الصخرة التي نقش عليها جعفر بن محمد عليهما السلام كتابة وصيته للمؤمنين، ولكن فهمت من بعض التعليقات عليه أنها في البادية المحسوبة على المدينة المنورة وأنها بين المدينةالمنورة ومكة المكرمة.
ويبدو أن جعفر بن محمد عليهما السلام قد نقش وصيته هذه على الصخرة بعد رجوعه من عمرة رجب وشعبان، أو أنه كان متوجهاً لمكة المكرمة بغرض أن يعتمر ويرمّض فيها.
ويبدو أنه بعد أن أناخ الراحلة ليلاً استغل وقته فنقش وصيته على الصخرة، ويدل على أنه نقشها في الليل قوله في آخرها ((وكتب لعشر ليال خلت من شعبان سنة عشر ومئة))، حيث أن العرب يؤرخون بالليالي حين كتابتهم ليلاً، فهو نقشها في الليلة العاشرة من شعبان.
وكان عمره حين نقشه لها ثلاثين سنةً تقريباً، وقد نقشها في حياة أبيه الإمام أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليه السلام، الذي توفي في السنة الرابعة بعد سنة نقشه، أي في سنة (١١٤هـ).
وقد استنكر من شكك في أن يكون جعفر بن محمد ناقش الكتابة هو الإمام جعفر بن محمد الصادق بأنه كيف يليق أن نتصور أن الإمام يجلس وبيده أدوات النقش وهو ينقش بها، وهذا الاستنكار لا معنى له أبداً، فليس في عمله عليه السلام للنقش ما يشينه، بل الظاهر أن نقش الآيات والحِكَم والمواعظ والشعر من الأمور الممدوحة عند العرب منذ قديم الدهور كي يوصِلوا لغيرهم بعض ما يرومون توصيله، ولذا وُجِدَت الكثير من النقوش المختلفة قام بنقشها أعلام وشخصيات عربية بارزة في وقتها، ولا سيما في فترة حياة الإمام الصادق حيث وُجِدَت الكثير من النقوش تعود لتلك الفترة أو للزمن القريب منها، حتى بلغت عموم نقوش الكتابات على الجبال والصخور في أطراف المدينة المنورة وحدها أكثر من ثلاثة آلاف نقشٍ، ومن الثابت منها أن العلويين والهاشميين كانوا من أكثر الأسر المدنية التي لها نقوش، فلا شذوذ ولا غرابة ولا ذم فيما لو قام جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام ما دام نقش المواعظ والأحاديث والحِكَم والأشعار والملكيات أمر معروف بين علية القوم وأجلّائهم، وهو شيء مرغوب فيه بين عرب الجزيرة العربية ولا سيما عند الحجازيين منهم الذين نقشوا كتاباتهم بالخط المدني.
كذلك نَقْشُ الإمام الصادق هو التفاتةٌ ذكيةٌ منه حيث استخدم أفضل طريقة متاحة وقتذاك ليوْصِل وصية متكاملة موجزة للمؤمنين تمتاز باحتمال بقائها للقرون المتعاقبة أقوى من احتمال بقاء الحديث المسموع أو المكتوب على رقٍّ أو ورقٍ حيث نقطع أن أكثر أحاديثه وأحاديث سواه من الأئمة عليهم السلام لم تصلنا.
ولعل نقش العرب لكتاباتهم الواحدة على الصخر لا تأخذ منهم الكثير من الوقت، كما قد يتوهمه البعض، فلا غرابة لو قلنا إن الإمام جعفر بن محمد الصادق نقشها في زمنٍ ليس بالطويل من وقت استراحته بليلة العاشر من شعبان وهو في طريق رجوعه من مكة أو ذهابه إليها، ولا سيما أنّ نقشه كان قصيراً صغيراً.
وقد يناقش بعض الحوزويين المتحذلقين غير العارفين بالآثار والنقوش الكتابية منها بالخصوص، ممّن لم يعرفوا ولم يسمعوا عنها شيئاً قبل اليوم بأنه حتى ولو كان ناقش كتابة هذه الوصية يقصد بجعفر بن محمد الإمام جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام، ولكن ما الدليل الذي يثبت أن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام هو الناقش حقيقةً ولم يكن غيره الناقش ولكن للتزييف نسب ما نقشه إلى الإمام جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام؟
والجواب:
إن التزييف لابد أن يكون من منطلق العداء لغرض قدحه في شخصية المزيّف عليه أو لأجل خلق تشويش حول فكره وما يُعرف عنه بحيث ينسب المزوّر قولاً يخالف عقيدة المنسوب إليه أو ما عرف عنه من أحوال، وهذه الوصية الجليلة العظيمة ليس فيها إلا ما يجلّ ويعظّم الإمام جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام، وكل محتواها تفوّه به في أحاديثه، فالقول بتزويرها عليه لا محل له من الصحة.
ولربَّ قائلٍ يقول إن كل ما قلتَه أقصى ما يفيد الظن بأن ناقش هذه الوصية على الصخرة هو الإمام جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام، ولا يفيد القطع بل ولا الوثوق بأن ناقشها كان هو عليه السلام.
قلتُ: يكفي ذلك، وهل روايات الأحاديث المنسوبة إلى أهل البيت عليهم الصلاة والسلام لا تفيد إلا الظن بصدور تلك الأحاديث عنهم عليهم الصلاة والسلام، وأقل القليل من الروايات ما يفيد الوثوق بصدور تلك الأحاديث عنهم عليهم السلام، وإذا أفادت الوثوق لا تفيد في معظمها إلا الوثوق الشخصي للواثق بصدورها.
على أن كاتب هذه السطور ليس يظن فقط بل يثق وثوقاً شخصياً بحسب جميع ما تقدم بأنّ ناقش الوصية على الصخرة كان الإمام جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام، ما لم يذذ عن ذلك قاطع البرهان وينسف ذلك الوثوق عن الأذهان مني ومن يشاركني فيه من بني الإنسان.
وكتب عبد الزهراء العويناتي/ البحرين.
ليلة الخميس ٦شهر رمضان المعظم١٤٤١هـ/ ٢٩أبريل٢٠٢٠م.
|