الآخر الأباضي وتأسيس المزاج الجماعي لشيعة البحرين

سبق للعمانيين أن استولوا على البحرين في العام 893 هـ/ 1488م، إلا أن هذا الاستيلاء لم يتسبب بشتات ملحوظ، ولم يؤسس لأية «بنية شعورية» تقوم على الشعور الجماعي بضياع «الوطن» والفقدان المبرم والأبدي لحالة الانسجام في الهوية. والغريب أن المؤرخين يذكرون أن أهل البحرين أعانوا العمانيين على الاستيلاء عليها في هذا الهجوم (عقد اللآل، ص 92). وقد استمر هذا الاستيلاء حتى مجيء البرتغاليين فاستولوا على البحرين، واستمر هذا الاستيلاء حتى مجيء الصفويين. ويذكر التاريخ أن إمام مسقط قد اغتنم حالة الاختلال التي تمرّ بها الدولة الصفوية في آخر أيامها، وقام بالاستيلاء على جزائر البحرين وملكها في العام 1129هـ/ 1717م. وكان هذا الاستيلاء هو الحدث الأهم الذي افتتح سيرة الشتات البحريني العظيم، وهو الذي أسس «بنية الشعور» الجماعي بضياع «الوطن» وفقدان الانسجام في الهوية لدى شيعة البحرين.

لقد تسبب هذا الهجوم ووقائعه المتتابعة بـ «حرق البلاد» بحسب تعبير الشيخ يوسف البحراني، وكأن زلزالا ضرب البلاد بتعبير الشيخ ياسين البلادي، ووقعت البلاد إثره في «الهرج والمرج والخراب والعطال» (أنوار البدرين، ص 142)؛ ما تسبب بخروج جملة من أعيان البحرين وعلمائها، وكان هذا الخروج هو فاتحة سيرة الشتات البحريني الجماعي. وفي هذا الهجوم خرج الشيخ أحمد بن إبراهيم آل عصفور (والد الشيخ يوسف البحراني) إلى القطيف وتوفي فيها في العام 1131هـ/ 1719م. كما خرج المحدّث الشيخ عبدالله بن صالح السماهيجي الذي استوطن بهبهان وتوفي فيها في العام 1135هـ/ 1723م. يُذكر أن الشيخ عبدالله السماهيجي سافر إلى أصفهان (عاصمة الدولة الصفوية)؛ لطلب مساعدة الشاه، «لمّا أخذت الخوارج بلاد البحرين، وكان قد خرج من البحرين في الواقعة الثانية من وقائع قدوم الخوارج إليها، (…) وبعد رجوعهم سافر الشيخ عبد الله المذكور إلى أصفهان للسعي في مقدمة البلدة المذكورة عند الشاه، وقد كان شيخ الإسلام أيضا في أصفهان، إلا أنه لمّا كانت دولة الشاه المزبور مدبرة، رجع الشيخ بالخيبة مما أمله، وتوطن في بلدة بهبهان لظنه رجوع الخوارج إليها» (لؤلؤة البحرين، ص 103، أنوار البدرين، ص 152). وفي هذا الشتات ألّف الشيخ عبدالله السماهيجي إجازته المعروفة للشيخ ناصر الجارودي، وختم هذه الإجازة بكلام مقتضب عن هذه الهجمات والحروب والأهوال، يقول: «وافق الفراغ من تنميق هذه الإجازة مع تشوّش البال، وتقلقل الأحوال، ومقاساة الخطوب والأهوال، ومصادمة الحروب والاقتتال، ومعاناة الشخوص والانتقال في بلدة بهبهان» (مخطوط إجازة الشيخ عبدالله السماهيجي للشيخ ناصر بن الشيخ محمد الجارودي، ص 99). ومن العلماء الذين خرجوا في هذا الهجوم أيضا الشيخ محمد بن يوسف بن علي بن كنبار الضبيري النعيمي وهو الذي رحل إلى القطيف ثم «مضى إلى البحرين – وهي في أيدي الخوارج – لضيق المعيشة في بلدة القطيف، فاتفق وقوع فتنة بين الخوارج وعسكر العجم، وقُتِل جميع عسكر العجم وجُرِح هذا الشيخ جروحا فاحشة، ونُقِل إلى القطيف فبقي أياما قليلة وتوفي إلى رحمة الله تعالى»، وذلك في العام 1130هـ/ 1718م (لؤلؤة البحرين، ص 110، وأنوار البدرين، ص 158، وحاضر البحرين، ص 29).

ويصف الشيخ يوسف البحراني هذه الواقعة بأنها «كانت واقعة عظمى، وداهية ودهماء، لما وقع من عظم القتل والسلب والنهب وسفك الدماء. وبعد أن أخذوها وأمنوا أهلها وهربت الناس – سيما أكابر البلد – منها إلى القطيف وإلى غيرها من الأقطار» (لؤلؤة البحرين، ص 443). ومن المرجّح أن تكون هذه الواقعة العظمى والمدمّرة هي الواقعة التي خرج فيها الشيخ ياسين بن صلاح الدين البلادي البحراني تلميذ الشيخ عبدالله السماهيجي، ويرجَّح أنه توفي بعد العام 1147هـ في شيراز. ونحن نخص هذا الشيخ بالذكر؛ لكونه ترك لنا نصوصا بالغة الأهمية والتأثير، وهو يؤسس في هذه النصوص والسرديات الذاتية لـ «بنية الشعور الجماعي» لشيعة البحرين في تلك الفترة. ويذكر الشيخ علي البلادي أن الشيخ ياسين كان «إماما في الجمعة والجماعة وانتهت رئاسة القضاء والحسبة الشرعية في بلاد البحرين إليه حتى عصفت عليها رياح المصائب والحدثان وفرقت شمل قاطنيها في كل مكان كما لم يزل ذلك بها في أكثر الأحيان» (أنوار البدرين، ص 192).

لم يخصص الشيخ ياسين مؤلفا لوصف معاناته الشخصية ولا معاناة أهل البحرين الجماعية بعد استيلاء الأباضية على البحرين في العام 1129هـ، إلا أنه بثّ ألمه الشخصي والجماعي في افتتاحيات بعض كتبه النحوية والكلامية، وهي افتتاحيات تستحق أن تُقرأ ويُعاد قراءتها أكثر من مرة؛ لأنها من النصوص الذاتية النادرة في هذه الحقبة. قال في كتاب «الروضة العلية في شرح الألفية»: «إن ربي وله المنة عليّ حيث نجاني من غمرات وأهوال ومصائب وزلزال لأني ممن كنت في قلب هذه الهلكة والحين وتلك الطامة الواقعة على أهل البحرين التي لم يقع مثلها في الأزمان كلا ولا، ولم تكن غير كربلاء، فيا لها من مصيبة قد شربتها، ومن رزية قد تجرعتها، ثم إني لم أتحسر على ما فات عليّ من المال ولا ما تلف عليّ من الحال، بل أتذكر ضرب الرماح المريقة لدمي وملاطمة السيوف المبرية لأعضائي وأعظمي، فلم أزل أسلي النفس عن ذكرها وأشغلها بالتسلي عن غيرها، وكيف تسلو وقد ترامتني بعدها أيدي الغربات، وتعاورتني أيدي الكربات، حتى ألقتني نون الآونة والأقدار، وقذفتني تحت يقطين الدار، دار العلم والكمال شيراز، صانها الله من الزلزال، خاليا من الطارف والتلاد، ليس معي أصل أطالعه، ولا كتاب أراجعه» (أنوار البدرين، ص 192).

يصوّر هذا النص استيلاء الأباضية على البحرين وما وقع فيها من خراب وعطال، ويصفه – كما وصفه الشيخ يوسف البحراني من بعده – بأنه «زلزال» ضرب هذه البلاد، وهزّ كيانها الجمعي، وطبع «مزاج» أهلها بطابعه الخاص الذي سيتعمق مع تقدم الزمن وتتابع الوقائع والهجمات. أما النص الأهم الذي يؤسس فيه الشيخ ياسين لـ «بنية الشعور» البحريني الجماعي فهو ديباجة رسالته المسماة «القول السديد في شرح كلمة التوحيد»، وهو نص بوحي يتفجر ألما وحسرة على ضياع البلاد وتشتت أهلها في الأقطار، والأهم فيه أنه يصوّر هذا الحدث على حقيقته المهمة على أنه حدث مؤسس لـ «بنية الشعور» الجماعية لدى شيعة البحرين، وهو قبل هذا حدث مفصلي شطر تاريخ البحرين إلى شطرين: بحرين ما قبل الزلزال الأباضي المدمّر إذ كانت البلاد في أمن واستقرار ورغد من العيش وهي أشبه شيء بجنة الفردوس، وبحرين ما بعد الزلزال الأباضي إذ صار حاضر البلاد أشبه باللعنة المقيمة على البلاد وعلى أهلها. أو على الأقل هذا هو ما تؤسس له نصوص الشيخ ياسين: تاريخ منشطر ومزاج جماعي منقسم. يقول: «حتى دهمتنا تلكم الداهية الهامة، وصدمتنا هاتيك المصيبة السامة اللاّمة، مصيبة ما وقع من قديم لها نظير، ولم يسمع بمثلها خبير بصير، ولم تخطر بخاطر ذي خطر، هي تلك الطامة العامة للزلزال، والمشتملة على جميع البلايا وشدائد الأهوال، الواقعة بأوقع الوقائع في جزيرتنا أوال، فإنه قد جرّد الزمان عليها صارم العدوان، وأفنى من كان فيها من السكان، وأضرم نار غاراته عليها، حتى أباد كلّ من كان فيها، وهي الديار التي أنيطت بها عليّ التمائم، وغنّت لديّ فيها مطربات الحمائم، وأوال أرض مسّ جلدي ترابها، وأقدم ساحة عذب في مذاقي شرابها، وقد جمت عن الزمان عليها حروفه، وعمّت لديها خطوبه وحتوفه، وعاشت كتائب نوائبه، وجمت عجائب مصائبه، فأضرمت نيران الفتن، في مرابع أهل الايمان، وشُنّت الغارات والمحن في معالم ذوي العلم والإحسان، حتى لم يبقَ في ساحاتها إلاّ قوم ببلدخ عجفى، ولا من عرصاتها إلاّ دمنة من أم أوفى (…) فيا لها من مصائب ما أصيب أحد بها غيرنا، وبلايا ما بلي بمثلها مخلوق في هذه الأزمنة دوننا. ولقد كنّا أول في الأوال آمنين، وتحت ظلها الثخين، وفي كنفها المستقيم ساكنين، ومن طيب شرابها سكارى نائمين، ومن نغمات غوانيها حيارى حائمين، أيامها ما كانت من أيام الدنيا، بطيب وانشراح وغنا، كلّ فن من فنونها قد فاق، فعالمها قد بلغت به الآفاق، ومباحثها في بحثه لا يجارى ولا يطاق، قد حاز من دون الملأ قصب السباق، ومؤمنها إلا كمؤمن الطاق، للّه ما كان أحلى ذلكم المذاق، وأشهى ذلك الشوق والاشتياق، حتى لقد أصابتها سهام العين، ونعق في أكنافها غراب البين، فشتّت ما بقي من أهلها في جميع البلدان، بل كمنثور الهبا، كأنه قد فشي بينهم الطربان، بعدما أن ملئت أزقتها من القتلى والجيف من أولئك الأعلام والسادات وأولي الشرف، فقبورهم بطون الكلاب الضارية بعدما أن رووا من السيوف الماضية، فكانت الحياة بعد تلك الأوقات غير لذيذة – إلى أن قال -: وكان ممن تغصص من ذلك العلقم، وتجرع من مرارة كؤوس ذلك السم الذي هو أنفث سما من الأرقم، وتشربه حتى امتلأ، وجرى في جوفه حتى انتحل وابتلى، وترك من حساب الأحياء، وعُدّ من جملة أولئك القتلى، كاتب هذا التدوين، ومحرر هذا التبيين، فكم من سيف قد حطمه، وكم من رمح لطمه وهشمه، وإني قد كنت على يقين أني من جملة أولئك الهالكين، وفي هاتيك المصر ممن قتل عيانا وجهرا، ولكن من فضل ربي ذي الجود والجلال أحياني» (عيون المحاسن، ص 66 – 68).

إلا أن الهجوم الأباضي الذي عمّق هذه السيرة، وحكم عليها بالنفاذ المبرم والأبدي، إنما هو هجوم العام 1151هـ/ 1734م. ففي هذا العام «أتى سيف بن الإمام سلطان مسقط مع جماعة من الأباضية والخوارج، وتملكوا البحرين وقتلوا من الشيعة ما لا يحصى» (عيون المحاسن، ص 32). ويذكر ناصر الخيري أن إمام مسقط سيف بن سلطان قد جاء إلى البحرين بهدف الانتقام من أهلها، و «حين وصوله البحرين حارب أهلها وتغلب عليهم وأمر بالقتل والنهب العام مدة ستة أيام كاد في أثنائه أن يجعل البحرين خالية على عروشها، وقد انتقم من الأهالي شرّ انتقام، وأذاقهم من العذاب والاضطهاد أشكالا وألوانا، وقتل كثيرا من مشايخهم وعلمائهم وكبرائهم، ودمّر البلاد أشدّ تدمير» (قلائد النحرين، ص 205). وفي هذه الأيام الستة العصيبة فرّ كثيرون إلى «جهات الإحساء والقطيف وبوشهر» (عقد اللآل، ص 98).

تستحق نصوص ومرويات ووقائع هذه الحقبة من تاريخ البحرين أن تُقرأ بعناية؛ لأنها هي التي ستؤسس لسيرة التاريخ المنشطر والوعي/ اللاوعي المنقسم فيما بعد. فقد شطر استيلاء الأباضية في العام 1129هـ تاريخ البحرين إلى شطرين، وأسس بحجم الخراب الذي تسبب به لـ «بنية الشعور» الجماعي لدى أهلها، وافتتح بينهم سيرة الشتات الجماعي العظيم الذي لم يهدأ إلا في العام 1869. والحق أن نصوص الشيخ ياسين البلادي التي تشخّص هذا الانشطار، صارت نصوصا مؤسسة لكل المؤلفين والعلماء البحرينيين الذين جاءوا من بعده. فكل من ذكر البحرين تحدّث عن هذا الزلزال الذي شطر تاريخ البحرين إلى شطرين: ما قبل الزلزال الأباضي وما بعده. فالشيخ علي البلادي – وهو من علماء البحرين الذين عاشوا تجربة الشتات في القطيف – صنّف كتابه «أنوار البدرين» ليترجم لسيرة علماء الإحساء والقطيف والبحرين، إلا أن هذه التراجم أشبه بمرثية طويلة نظمها ليؤرّخ فيها سيرة الشتات البحريني العظيم وسقوط الوطن المدوي بعد أن ضربه الزلزال الأباضي وما تلاه من هجمات متعاقبة. يقول في وصف البحرين قبل الزلزال الأباضي: «وهذه الجزيرة أعني البحرين أحسن المدن الثلاث جامعية للكمال لكثرة العلماء فيها والمتعلمين والأتقياء الورعين والشعراء والأدباء والمتأدبين وخلص الشيعة المتقدمين وكثرة المدارس والمساجد وفحول العلماء الأماجد. وهي مع ذلك ذات نخيل وأشجار وعيون وأنهار وأرضها قابلة لكل الزراعات، وبها مغاص الدر الجيد من جميع الجهات». إلا أن هذا الوضع الآمن والرغيد انقلب بصورة هائلة بعد الزلزال، يقول: «وقد عصفت بها الآن عواصف الأيام ولعبت بأهلها حوادث الدهور والأعوام التي لا تنيم ولا تنام، فشتت شمل أهاليها، وبددت نظم قاطنيها، وفرقتهم في كل مكان، وفرقتهم أيدي سبا من أهل الجور والعدوان (…) فصارت أكثر رسومها عافية، وبيوتهم على عروشها خاوية، وخلت من السمير والمسامر، وانعكست عكس النقيض (…) وأقفرت من أهلها الربوع والمساجد، ودرست من أهلها المدارس والمعابد، فتجد أكثر قراها رسوما دائرة، والقليل بآثارها تحكي نضارة أهلها خرابا غير عامرة، وقد عمرت أهلها أكثر الأطراف والبلدان، ونشروا فيها شعائر الإسلام والإيمان، فأكثر العلماء الموجودين ومن سلف في البلدان القريبة كالقطيف وأبي شهر وأطراف فارس ولنجة ومسقط وميناء والمحمرة وأطرافها والبصرة وشيراز وكثير من أطراف العراق والعجم منهم حديثون ومنهم قديمون» (أنوار البدرين، ص 47).

لقد اكتسب استيلاء الأباضية على البحرين خصوصيته بصفته حدثا مؤسسا من حجم الخراب الذي جلبه إلى البحرين وأهلها بدافع من التعصب المذهبي العنيد بالدرجة الأولى، ومن التنافس المستعر على مناطق النفوذ مع شاهات الدولة الصفوية بالدرجة الثانية. وهذا ربما هو الذي حمى القطيف والإحساء – وهما بلدتان شيعيتان مثل البحرين – من هذا المصير المدمر؛ لكونهما كانتا تحت نفوذ الدولة العثمانية. والمفارقة هنا أنه في كل مرة تظهر دولة شيعية قوية في المنطقة يكون نصيب شيعة البحرين من ذلك مزيدا من البلاء والضرّ والتضييق والشتات، حدث هذا حين قامت الدولة الصفوية ودخلت البحرين ضمن مناطق نفوذها في القرن السابع عشر، وحدث هذا عندما قامت الثورة الإسلامية في إيران في العام 1979. فما أشبه الليلة بالبارحة! وكأن من مصلحة شيعة البحرين ألا توجد دولة شيعية قوية في هذا الإقليم!
بقلم الدكتور نادر كاظم
الوسط ، 05-06-2007م

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

*